عمان | دول الخليج العربي انصرفت إلى الانخراط في الأوضاع السورية، ما وضع علاقاتها مع الأردن على محك التورط في عداء دمشق. الشقيق المصري «المعتدل» غاب وحلّ بديلاً منه طرف بات لاعباً إقليمياً في هلال «سنّي» (مصر، تركيا، قطر) يثير الريبة بخططه وعلاقاته في الداخل الأردني، في حين أن «قضية الشرق الأوسط» لم تعد قادرة على حمل دور يسند «السياسي» الأردني في تأكيد أهميته، ويطمئنه على ضرورته.
خارطة اليأس تمتد لتشمل إسرائيل التي لم يعد لدى ساستها المستفيدين من تسليط الضوء على الأزمة السورية أي رغبة في توزيع الأدوار تحت مظلة البحث عن التسوية. اللاعبون الكبار (أميركيون وأوروبيون)، بدورهم، ليسوا بأفضل حالاً؛ هذا في الوقت الذي يلحظ فيه الأردن أن حلفاءه التقليديين من عرب وغربيين يقفون عاجزين أمام تمدد الحضور والدور الروسيين، وباتوا يقرّون بالمحطة الروسية في العلاقات الدولية، ولا سيما في ما يتعلق بالمنطقة.
وفي هذا السياق، يبرز التسليم الخليجي (السعودي تحديداً) بدور روسي في الأزمة البحرينية، حيث سبق أن استقبلت موسكو في أوقات متتالية مبعوثين حكوميين ووفداً يمثل المعارضة البحرينية.
وفي المحصلة، فإن الملك الأردني الذي سجّل أكبر عدد من الزيارات لموسكو في وقت قصير (11 زيارة منذ 2001)، يدرك أكثر من سواه أنّ المدينة التي يزورها اليوم ليست تلك التي كان يحطّ رحاله فيها سابقاً. ويعرف أنّ زيارته الحالية تختلف عن سابقاتها، فهي الأولى التي يحمل جدول أعمالها جانباً سياسياً يتجاوز إطار بند العلاقات الثنائية، إلى بحث قضايا إقليمية، ينشط نقاشها على الموائد الدولية (الأوضاع في سوريا)، وفي هذا تعويض عن دور مفقود كانت توفره «عملية التسوية».
ويدرك الملك الأردني أنّ زيارته الحالية تسير في اتجاهين، فملفاته الخاصة تقابلها ملفات روسية، حيث تبدو موسكو اليوم أكثر ميلاً إلى التصريح باهتمامها ببلد يجاور الأزمة السورية، ويعيش في عمق «قضية الشرق الوسط» المحورية في العلاقات الدولية؛ بل إنّ الملف الإقليمي يأخذ في هذه الزيارة، وللمرة الأولى، طابع الأولوية والأسبقية على ملف العلاقات الثنائية. ومن اللافت، هنا، التقويم الروسي لهذه العلاقات المتركزة على التقنية العسكرية والسلاح، إذ يقول نائب رئيس مركز الأبحاث الاستراتيجية والتكنولوجية، قسطنطين ماكيينكو، لصحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا»: «من الجانب التجاري، يعتبر الأردن في مجال علاقات التجارة العسكرية عميلاً محدود الإمكانيات بشكل كبير... غير أنّ الأردن نفسه، من زاوية سياسية، يعدّ بلداً مهماً للغاية».
خلافاً للقاءات الأردنية الروسية السابقة، تأتي هذه الزيارة محاطة بظرف مختلف في ما يتعلق بالتقديرات السياسية. فالملك الأردني غادر منذ وقت مساحة الأوهام التي كان يفرضها عليه حلفاؤه الغربيون والإقليميون بشأن إمكانية إطاحة الرئيس السوري سريعاً، كما اختبر بنفسه أوهام أشقائه في الخليج بشأن حدود الموقف الروسي وتجاوز تحليلاتهم الرغائبية، التي تصرّ على أن موسكو قابلة للتغيير والتبديل.
الأولوية التي تأخذها الأزمة السورية على حساب «عملية التسوية»، حرمت الملك الأردني من دوره التقليدي، وهو اليوم يرى أن ثمة فرصة في دور بديل (مهما كان محدوداً) في الجانب الروسي من المعادلة السورية، فهذا لا يحمل معه القدر من الأخطار على الأردن وعرشه بقدر ما أنذر به الانحياز إلى الجانب الخليجي الغربي في هذه الأزمة، بينما بات واضحاً أن موزع الأدوار الأساسي في الأزمة السورية وترتيباتها اللاحقة هو الطرف الروسي، وليس سواه، في وقت يبدو فيه الحلفاء التقليديون عاجزين، ومضطرين إلى متابعة الأزمة السورية بتوقيت الساعة الروسية، التي لم تتعطل رغم ضخّ المال والسلاح والرجال في النار السورية.
يعرف الملك عبدالله الثاني أنّ ما تطلبه منه موسكو هو في حدود إمكانياته وقدرته، خلافاً لطلبات حلفائه التقليديين. فكلفة المساهمة في تسوية الأوضاع السورية المتأزمة لا تقارن بكلفة القبول بالتصدي لمهمة إطاحة النظام في سوريا، بينما كلفة التعامل مع هذا النظام مستقبلاً، هي أفضل بما لا يقاس من التعامل مع وضع عراقي في سوريا.
وبطبيعة الحال، لا يمكننا إلا أن نلاحظ أن مجمل التصريحات واللقاءات الأردنية وزيارات الملك لحلفائه التقليديين تنصبّ على توضيح الكلفة الباهظة التي تتحملها عمّان جراء الأزمة السورية، ومحاولة استدرار التعاطف مع وضع مأساوي نجم عن الرضوخ لمطالبهم بفتح الحدود أمام اللاجئين السوريين. ولكن الملك الأردني الذي يواجه في هذا الوقت توجهاً أميركياً لخفض المساعدات للأردن، يدرك في زيارته الروسية أن «موسكو لا تصدق الدموع»، ولا تكترث للبكاء، على الأقل في ما يتعلق بالخسائر المادية والسياسية بالعلاقة مع الملف السوري، فهذه جاءت نتيجة خطوات تجامل خصوم روسيا.
لذا، حرص عبدالله الثاني على الذهاب إلى موسكو بجهوزية مختلفة، إذ تؤكد المؤشرات أن الاستخبارات الأردنية نجحت في معالجة عماها السوري، مستفيدة من حقيقة الوجود السلفي الأردني المكثف بين المسلحين في سوريا. وأبدت في الفترة الماضية قدرة على التأثير من خلال الشد على العصب والجذر السلفي في الأردن. وهي قدرة من المرجح أن تزيد بمرور الوقت، لتذكرنا من جديد بحجم تغلغل الاستخبارات الأردنية في الجماعات المتطرفة في العراق واختراقها لها.
وعملياً، فإن جدول أعمال الزيارة يحدده من جهة الموقف الروسي الواضح، وإدراك الضيف الأردني المسبق لطبيعة هذا الموقف وغاياته. ومن جهة أخرى، فإن سقف نجاح وأهمية الزيارة يتحدد بالقدرة والاستعدادات الأردنية. وبين هذا وذاك، ثمة تفاصيل تجد معناها في عجز حلفاء الأردن التقليديين عن تقديم خيارات مثمرة، أو تبرير نتائج «غزوة» أريد منها تفكيك المحور الإيراني السوري، وإذا بها تضيف إليه قوة عظمى صاعدة وتتيح الفرصة لموسكو لتظهير دورها غير المسبوق في المنطقة.
وفي خلاصة تفرضها ظروف الزيارة، يمكن القول إنّ هذه الزيارة الحقيقية الأولى التي يقوم بها الملك الأردني إلى موسكو، أما ما سبقها من زيارات فهي مجرد رحلات تسوّق وتبضّع في سوق التقنية العسكرية والسلاح.

مجالات التعاون الثنائي

تجري زيارات الملك الأردني إلى موسكو بالعادة تحت لافتة «العلاقات الثنائية والوضع في الشرق الأوسط». وتعني «العلاقات الثنائية» التعاون الاقتصادي والتجاري ثم التعاون العسكري التقني. في الجانب الأول يبلغ حجم التجارة بين روسيا والأردن حوالى 400 مليون دولار سنوياً. 90٪ من هذا المبلغ لصالح السلع الروسية. أما في مجال التعاون العسكري التقني، فهناك تعاقدات لتوريد طائرتي نقل عسكري من طراز «إيل إم إف 76» ومروحيات «كيه إيه 226»، وقذائف «آر بي جي 32» المعدة لقاذف «هاشم»، وهو نسخة من الـ«آر بي جي» تم تصميمها وفق الحاجات الأردنية. ويتمّ تصنيعها في الأردن (ثمّ توريدها)، إضافة إلى اتفاقية لإنشاء مصنع لقذائف «آر بي جي 32» (يبدأ الإنتاج في النصف الثاني من هذا العام) وآخر لتجميع المروحيات. وهذه المواضيع كلها، إلى جانب التأخير في تسليم طائرتي الـ«إيل إم إف 76» كانت موضوع مباحثات الملك الأردني خلال زيارته لموسكو قبل عامين (2010).
لم يضف بيان الكرملين بشأن الزيارة الحالية للملك الأردني إلى مفهوم «العلاقات الثنائية» جديداً، إذ تحدث تحت هذا العنوان عن تعزيز التعاون في مجالي التجارة والاقتصاد والتعاون في المجال البشري، بما في ذلك التعليم والتدريب، بينما أعادت صيغة البيان التذكير بإمكانية مشاركة روسيا في بناء محطة الطاقة النووية الأولى في المملكة، وكذلك مشاريع تطوير البنية التحتية والتعدين. ويذكر أن وكالة الطاقة الذرية الروسية تبنّت تمويل إعداد 12 متخصصاً أردنياً في مجال الفيزياء النووية.