تجلس في بيتك باطمئنان واستئناس لا تريد الخروج. يأتي عمّك ليغلق الباب ويحذرك من أنك لن تخرج. للحظة تشعر بأنك قُيدت ويجب أن تخرج، مع أنك لم تنو الخروج أصلاً. هذا تقريباً ما جرى مع «عمّنا» وجارنا المصري. لقد علا صوت بعضنا عليه، فغضب. أصلاً هو لم يكن يحتاج مبرراً لإغلاق معبر رفح على مليوني نسمة يعيشون في 365 كلم مربعاً، ولكن لا بد أن يساعد المقتول قاتله، كما يجري عادة لسوء الحظ.
بعد عامين من الغربة (الإجبارية) خارج غزة، تحاول أن تواسي نفسك: مرّ عامان وبقي ثمانية. من التفاؤل أن نضع عشر سنوات كمدة باقية لهذه الأزمة التي مضى من عمرها عشر أخرى. أي إن عشرين عاماً قد تبدو كافية لمشكلة «مستعصية» اسمها معبر رفح، على أمل أن يجنّ قبل ذلك جنون أحدهم ويفجّر الشق الفلسطيني منه، ويعلن إغلاق حدود غزة مع العالم، خاصة العرب.
فعلناها ذات مرة. صحيح أننا فجرنا الحدود لنفتحها لا لنغلقها، ولكننا حركنا «المياه الراكدة» كما يحب أرباب السياسة أن يسموها، ثم ماذا؟ ذهبنا لنحفر الأنفاق، وبعبارة أخرى قتلنا بأيدينا 250 طفلاً وشاباً تحت التراب، ليحفروا من أجل عيون «أمراء الحرب» ألف نفق، لم تفلح في تدميرها الصواريخ والجدران الحديدية، فذوّبت رمالها مياه المتوسط، ولم يبق منها سوى الصور التي تظهر «عظمة شعب الجبارين» وهم يدخلون من تحت الأرض الأبقار والماعز والسيارات... والعرسان و«الكنتاكي»!
لن أنسى عيون أولئك الجنود الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرين، وقد جلسوا على «الملّالة» البنية يتأملون وجوهنا ونحن في حافلات الترحيل. للحظة تفكر كيف لهذه «الملّالات» ذات العجلات المطاطية أن تقاتل إسرائيل لو قررت فعل ذلك يوماً ما! تستدرك أفكارك العروبيّة لتتذكر أن هؤلاء يحاصرونك، عن وعي أو غير وعي، تحت عنوان الحفاظ على «السيادة» المصرية. نكتة السيادة تجعلك تضحك بجنون «قال سيادة قال... بس تقدر قيادة هالجنود الغلابة يفوتولهم غذا لما يصير عمليات في سيناء». أسرّ ضابط فلسطيني في أذني، مضيفا «والله بنحزن عليهم، اوقات حتى بنبعتلهم صواني رز من غزة، تصوّر».
أليست الثورة مجنونة؟ لم نقرأ في التاريخ غير أنها كذلك. أصلاً العقل دوماً يدعو الإنسان إلى الحفاظ على حياته وترك كل ما يشبه الموت. هي معادلة بسيطة، إما أن نتصرف كدولة (كما نرى أنفسنا في غزة) ونلعب السياسة ونسلّم هذا المعبر لمن يستطيع فتحه، مثلاً «فتْح» تستطيع «فتْح» المعبر كما تقول. وإما أن نتصرف كثورة (أيضاً كما نرى أنفسنا في غزة) ونذهب إلى خيارات مجنونة.
ماذا يعني فتح هذا المعبر ثلاثة أيام (اليوم الثالث كان مكرمة من القاهرة!) بعد سبعين يوماً، وقبلها مئة يوم من الإغلاق؟ هذا بحكم الرياضيات والمنطق «معبر مغلق»، ولا يفتح إلا لتنفيس الغضب. فلنغلقه بأيدينا وباختيارنا، ولنجمّع غضبنا لينفجر تلقائياً بدلاً من أن ينفّسه أحد، أو بدلاً من أن يفتحوه لساعات معدودة كـ«ردّ عتب»؛ حتى لا يخسر من اسمه كلمة «معبر»، التي تعني أن الناس يجب أن يعبروا من خلاله!
لا، المصيبة الأكبر أنه حين فُتح في بعض المرات «جزئياً»، كان يفتح باتجاه واحد! فلماذا نقلق بالنا بالتفكير فيه؟ أليس من قديم الحكم عندنا ما يقول إن هِبْت شيئاً فقع فيه؟ أم قبلنا على أنفسنا التأقلم مع ما يمكن أو ما لا يجب أن نتأقلم معه؟ كأنّ التأقلم بات صفة من صفاتنا ونحن الذين نظن أننا قضية العالم المركزية وهمّه الشاغل؟
على ما يبدو، هناك تعريف آخر للانتصار يريدون لنا أن نتعلمه في هذا العالم. مثلاً، بات «مشروعاً وطنياً» أن يبحث الفلسطيني عن جنسية وطن آخر، كي يُحسن التنقل والإقامة... في بلده ومنه وخارجه! أعود مثلاً إلى بلدي، بعد خمس أو عشر سنوات، وأنا أحمل شارة النصر وبين إصبعي «باسبور أجنبي»!
لنعِد التفكير في تفجير المعبر. خذوا الحكمة من أفواه المجانين. ليس هذا فقط. يجب أن نبدع في تفجير المعبر: كم كيلوغراماً يجب استخدامه؟ صراحة يجب أن نحشوه بأكثر ما يمكننا من مواد متفجرة. يحلّ لنا أن نسرف هذه المرة! هناك فكرة أخرى، خطرت ببالي من استخدام القائمين على المعبر جدرانه وشاشاته للتعريف بمعاناة الغزيين، حينما كانت تدخل بعض الوفود المتضامنة. فحين نزرع كل عبوّة في المعبر، يجب أن تعرض إحدى الشاشات بجانبنا صور الإذلال، التي أظهرت آخرُها الناس في الجانب الفلسطيني كأنهم في أقفاص. ولا بأس بتشغيل إحدى الأغاني التي كانت تبث بداية الانتفاضة. هل بإمكانكم، على ذكر الجنون، تصوّر أن تلفزيون «فلسطين»، من قلة الإنتاجات، كان يبث أغنية «دايماً دموع» لحمادة هلال، ويبث معها صور معاناتنا!
تفجير المعبر قد يريح بال من يريد السفر فيتأقلم مع واقع الحدود المغلقة، ويصير بإمكان في الخارج أن يحسم قراره. مثلاً يبدأ الأعزب التفكير في الزواج، والمتزوج يبحث عن الاستقرار، أما للمجنون التفكير بكيفية تحرير فلسطين من أقرب نقطة منها، من أجل الخلاص من هذا الاحتلال... أو هذه الحياة، على الأقل بشرف!
الإقليم كله يشتعل وخرائط دول مهددة بالتغيّر، ومعبر رفح «صامدٌ» ــ كصبرنا السلبيّ ــ نخاف أن نمحوه عن الخريطة... هو وكل صور إذلالنا عليه. ألم يخبركم أحد أن هذا المعبر والحدود من حوله فصلت رفح عن نفسها وقسمتها إلى فلسطينية ومصرية؟ وأنه حين كان مفتوحاً، كان يقف طرفاه وبينهم الأوروبيون وكاميرات الإسرائيليين تراقب؟ وأن هناك من أبناء جلدتنا، ممن يدعون السيادة، من يطالب بعودة صيغة العمل هذه؟
أخيراً، لا تقلقوا. لو فجّرتم المعبر لن يترككم العالم، بل سيركضون إليكم ركض المجانين. قد تسمعون صراخاً واستنكاراً، ولكن.. خوفاً على إسرائيل. ومن أجلها فقط، سيقدمون لكم أسرع الحلول، بل قد تحظون فعلاً بمطار أو ميناء.
لا أخفيكم سراً: على الأقل، تفجير المعبر من طرف واحد، أهون وأوفر دماً من تكلفة خوض حرب جديدة (رابعة) من أجل فكّ الحصار!

* تنبيه: هذا ليس مقالاً سياسياً ولا وجهة نظر ولا مقالة رأي ولا شبه تقرير. هذا «فشة خلق» يا «عاقلين».


عن معبر «الكرامة»... حيث لا كرامة

لا يعبر إلا غزيون قليلون من معبر ــ جسر «الكرامة» بين الضفة المحتلة والأردن. بغض النظر إن كان هذا حظاً سعيداً لهم أو لا، فإن من الجميل أن تسمع عن غزي يعبر من معبر مفتوح برغم أن الإسرائيلي يقف حارساً وسطه! و«جميل» أيضاً أن يحمل جوازك ثلاثة أختام بعد مرورك من ذلك الجسر: معبر «الكرامة»، معبر «اللّنبي»، جسر «الملك حسين».
خطّ رحلة هؤلاء أصلاً يبدأ من «نقطة 5» التابعة لحركة «حماس» شمال قطاع غزة، ثم «نقطة 4» التابعة للسلطة («فتح»)، ثم «معصرة إيريز» والتفتيش العاري، ثم إلى فلسطين المحتلة، ثم الضفة (أريحا)، وذلك الجسر الثلاثي الأسماء، ثم مطار عمّان، ثم إلى بقعة الأرض التي تنتظره... ولعلها رحلة أقصر من «معبر رفح المغلق»، فالعريش، ثم مطار القاهرة (أفريقيا).
أيضاً، من بعض «الاقتراحات العاقلة» بشأن حل أزمة رفح، بعد حملة «سلموا المعبر»، ما حُكي عن صيغة تشبه صيغة «5 * 4 * احتلال»، لحل الأزمة: «نقطة 5 لحماس قبل معبر رفح * نقطة 4 للسلطة * وفد أوروبي مراقب * المصريون»، فهل أخذوا بأي من الحلول «العقلانية» قبل الكتابة عن الجنون؟


مرّت سنتان... أطول مما أتخيل وأقصر مما أتوقع

فعلاً لم أعرف معنى الخطوة التي فعلتها بالخروج من غزة إلا حينما أشتاق لأهلي. حتى اليوم لا أزال أستيقظ وأنا أتخيل أنني على سرير غرفتي، بل أحلم مراراً بأني دخلت تلك الغرفة التي كانت هادئة برغم أنها وسط «علب السردين» من البنايات الكثيفة. أما الكابوس، فهو تكرار رؤية أنني أمرّ من معبر إسرائيلي، وأنهر نفسي وأنا نائم «كيف قبلت على نفسي أن أمر من صوب العدوّ ولا أفعل شيئاً؟». كلنا نحلم في ذلك البيت الخشبي الصغير وسط الغابة، مع أننا ــ أبناء المخيمات والضواحي أو قل المدن ــ لم نختبر حقيقة قدرتنا على العيش بالقرب من الحشرات بأنواعها ومعنى الحياة في البرية، التي لم نر نحن ــ الغزيين مثلاً ــ من جبالها ووديانها شيئاً، لكننا نطلب حلماً متواضعاً: دعونا نعرف الأشياء بأسمائها، هذا معبر لنعبر.