كان يوم الخميس بالنسبة إلي، وأنا في الرابعة، ولاحقاً في الخامسة من عمري، يوما ذا وجهين متناقضين الى حدّ كبير. كنت أكره صباح يوم الخميس بسبب "أم ياسر"، المرأة التي كانت مسؤولة عن إعداد الطعام في روضة "الهدى". كانت هي من تشتري الخضار والحبوب ومن تقرر ماذا سنأكل خلال النهار. لطالما اعتقدت أن أم ياسر تربطها بـ"المجدرة" علاقة وطيدة، فبين كل ثلاث وجبات، تكون الرابعة حتماً "مجدرة". قبل أن تخطئوا فهمي، لم تكن لدي مشكلة مع المجدرة، ولا مع الأكل عموماً بل على العكس، أحببت الطعام الذي كانت تعدّه أم ياسر لأنه بالنهاية يشبه الطعام الذي تعده أمي و زوجة عمي وجدتي وحتى جارتنا سميرة. لكن مشكلتي مع أم ياسر بالتحديد ومن دون مقدمات، هي مع كوب الحليب الذي كانت توزعه على جميع الأطفال في صفي. كنت -و ما زلت حتى اللحظة- أكره الحليب، لا أحتمله دافئاً كان أم بارداً. كانت أم ياسر تقف في الصف حتى تجمع أكواب الحليب الفارغة من بين أيدينا.
تعللت مرات عدة وأخبرت أم ياسر أنني أشرب الحليب في الصباح الباكر مع أمي قبل حضوري الى الروضة، لذلك لا يمكنني أن أشرب كوباً آخر في الصباح عينه. نجحت خطتي ليومين وربما ثلاثة، الى اليوم التي أخذتني أمي معها لزيارة إحدى صديقاتها في المخيم. ما أن دخلنا حتى تفاجأت بأم ياسر تجلس تحت عريشة دار صديقة أمي. من حديث لآخر تشاركته أمي معها، اكتشفت أم ياسر انني أختلقت قصة الحليب لأتخلص من شربه في الروضة. في اليوم التالي، دخلت أم ياسر الى صفي ومعها كوباً أكبر حجماً من الذي ناولته الى أصدقائي. كان من المستحيل بالنسبة إلي أن اشرب أيّاً منه، لم أعرف ماذا أفعل، فكرت بالهرب وبالبكاء، لكن ذلك لم يكن لينجح مع أم ياسر.
حملت كوب الحليب الكبير بين يدي، نظرت حولي، كانت رفيقتي أماني تجلس الى يميني، تنبهت ساعتها إلى أنها أنهت كوبها بسرعة وهي متبسمة، فخطر لي الحل. ارتشفت القليل أمام أم ياسر لئلا تشك فيّ، ثم اتفقت مع أماني أن نبدل كوبينا ما إن تنتهي هي من شربه. كما قلت لها بأنني سأتظاهر بأنني أوقعت قلمي تحت طاولتنا، وفي اللحظة التي أدنو لأفتش عنه، على أماني أن تبدل الكوبين وتشرب كوبي بسرعة. غريبة هي أماني كيف تحملت كل هذا العذاب في طفولتها! لكن حتى هذه الخدعة لم تدم طويلاً، إذ يبدو أن أم ياسر قد باتت تراقبني باستمرار، وسرعان ما اكتشفت الأمر، وعدت إلى شرب الحليب كالأخريات.
كان ذلك سبباً كافياً يدفعني لكره نهار الخميس في صغري. والأغرب من ذلك أن نهار الخميس عينه، بعد انتهاء دوام الروضة، كان شيئاً يشبه الأحلام. ففي كل خميس كانت جدتي سودة تجمع أمي وزوجات عمي وعمتي في دارها ليصنعن المناقيش والمعجنات. كانت أمي تنخل الطحين ثلاث مرات متتالية، وفق شروط سودة. ثم تقوم جدتي بصب الماء الدافئ على الطحين بعد إضافة السكر وبعض اللبن والقليل من الملح والزيت. وما أن تختمر العجينة، تكون عمتي قد أشعلت "الفرنية" وجهزتها.
ما أن تُدخل جدتي قطع العجين المدورة الى الفرنية، حتى تفوح رائحة المناقيش وتتخطى دار سيدي الى الحارة بكاملها. كنت وابن عمي الذي يشاركني الروضة ذاتها، نمشي سوياً الى البيت، وما أن نشمّ رائحة المناقيش حتى نتسابق للوصول الى الدار. تصرخ فينا سودة كعادتها قائلة: "يعني بيصرش تفوتوا زي العالم والناس، لازم تنطوا زي القرود، روحوا غسلوا ايديكو؟" فنضحك في سرنا ونضع حقائب الظهر أسفل الدرج، ثم نتودد لجدتي حتى تناولنا قطعة من الزلابية بالسكر التي كانت تجيد صنعها بامتياز.
كما قلت لكم في البداية، كان الجزء الثاني من يوم الخميس رائعاً بالنسبة لي، لكن نهار الجمعة كان المفضل أيام وجودي في الروضة لأسباب سأذكرها في حكاية مقبلة.