أن تحبّي فلسطينيّاً...
صديقتي، مرّ زمن ولم أكتب لك. وكما في كل مرة، حين يصل الحال إلى «مواصيله»، أجدني أحمل قلمي لأكتب لك. منذ فترة، وقعت على ملصق كتب عليه «أن تحبّي فلسطينياً، أي أن تكوني خيمته الأخيرة». وقبلها بأيام، حدثتني إحدى صديقاتي عن علاقتها بفلسطيني. كانت تحدثني عن فيض أحاسيسه. وختمت «لم أكن أعرف أن قلب الفلسطيني يستطيع أن يعطي كل هذا»... وأنا لم أجد جواباً سوى ابتسامة.
صديقتي، أذكر أنني حملت عبء فلسطينيتي منذ الطفولة. حين كان ابن مسؤول حركة أمل في مدرستي يكيل لي الشتائم و«يبدّع» باختراع النعوت التي تتناغم مع «فلسطيني»، أثناء حرب المخيمات. وحين صرت تلميذ مدرسة «وكالة»، بدأت أدرك حجم هذا العبء أكثر، بالرغم من جهد الوكالة الممنهج لمحو هويتنا. أضيفي إلى هذا كله العنصرية، سواء على حواجز القوى الأمنية أو مكاتب التوظيف. بالمقابل، لم أقدر أن أستبدل الوطن بآخر، أن أتقبل فكرة الوطن البديل أو الجنسية الأخرى أو التعويض. فالوطن حلمنا، ولعنة قلب الفلسطيني أنه يخشى الحلم. ولكن إن وجد يداً تدغدغ هذه الأحلام، فلن يتردد للحظة. ولعنة قلب الفلسطيني أنه لا ينقل أحلامه من امرأة لأخرى، تماماً كما يرفض أن ينقل وطنه وجنسيته وأحلامه. تماماً كما يخشى أن يوضّب حقائبه، ففكرة الرحيل لا تزال مرعبة له. نحن الذين نعطي التشرد والتحدي معنى جديداً كل يوم، نعطي الحب معنى جديداً أيضاً. فالفلسطيني يرسم في امرأته امتداداً للوطن. يبحث عن الأمان والمنزل، وعن جفرا. صديقتي، الرحيل موجع. أن توضبي ذكرياتك مرة أخرى، وأن تنفي نفسك «اختيارياً» عن كل ما تعشق نفسك. عن قهوة الصباح، عن زاروب «إسترال»، عن الحمراء، عن صوت فيروز الجميل وعن وعن وعن... أن تنفي نفسك عن كل شيء تنتمين إليه، تماماً كما نفيت من وطن كل ما فيه لك، وكل ما فيك يدين بالفداء له.
كيف نعتاد الرحيل؟ كيف نقول لهم بكل بساطة إننا تعبنا من السفر؟
وإن أحببت فلسطينياً، توقّعي فيضاً من الحب والأمان. احرصي على أحلامه فهو لن يحتمل لسعة رحيل جديد. لن ينقل أحلامه التى أنجبها بين يديك إلى أياد أخرى. بل سيضيفها إلى لائحة ما أحبّ وخسر: وطن لم ير منه إلا الصور، وحضناً كان يبحث فيه عن أثر ذلك الوطن.
طه سمور

كل شيء ولا شيء في آن

أن أحبّ غريباً في منفاه، يعني أن أكون مملكته الأخيرة، يعني أن أكون موطن الولادة وموطن النهاية، يعني أن أجعل من جسدي مساحة وطن ومن خلاياي منازل، ومن قلبي مكاناً يدفن فيه. يعني أن أكون اللاشيء وكل شيء. طه، أنت الذي علم بحالي من دون أن أبوح له، أقول لك إنني متعبة من حب الغريب في منفاه. أنا الكل شيء، واللاشيء في آن.
أتعرف أين أكون الآن؟ ركبت سيارة أجرة لأول مرة منذ سنة، سائق السيارة مزيج من عدة ثقافات، لافتته تحمل اسمه وهو من عائلة بيروتية عريقة، مذياعه يغني «نعيم الشيخ»، و«تابلو» السيارة عليه ثلاث دمى لكلاب يهتزّ رأسها مع كل مطبّ. اتجهت الى حديقة الصنائع لأستجمع أفكاري وأكتب لك، لكنني أنظر فأرى كم هي جميلة هذه الحديقة بمن فيها، وكم هي حلوة بيروت! كم تحملت هذه المدينة من خطايا أهلها والغرباء، وكم تبدّلت وتغيّرت! كم نحب بيروت بميليشياتها التي لا تزال تخوض حربها حتى الآن، كم نحبها بشوارعها المثقلة بأبشع الذكريات، بجدران أحيائها التي لا تزال تحمل آثار الرصاص! وكم نودّ أن ننسى من نحن ومن تكون بيروت! إحساس بلحظة ضيق: أريد أن أكون في أي مكان غير هنا، أريد الابتعاد عن حضن هذه المدينة وحضن هذا الغريب، وفي لحظة أخرى لا يمكنني الابتعاد، رغم قذارة الشوارع وحقارة الذكريات. حتى ذاك الغريب الذي أحببته في منفاه، لا تعوّضه نساء الدنيا عن مساحة وطن ضاع، فأين أكون؟ وماذا أكون؟ إن كنت لا أستطيع أن أكون بديلاً للوطن، وليس باستطاعتي أن أكون نساء الدنيا كلها؟ أنا التي اشتقت حضوره في حضوره، وحضوره في غيابه، واشتقت حضوره مسافة الطريق. لم يعلم هذا الغريب بعد أن ما بيننا أصغر من مساحة وطن، وأكبر من مسافة طريق. أنا الكل في شيء واللاشيء في آن، وكم أشعر بأن هذه المدينة ستضجّ وتزدحم حتى تنفجر بمن فيها، وكم أريد الابتعاد عن هنا، وكم لا أريد.
محمود درويش كتب «ذاكرة للنسيان» في منفاه بيروت، وكلما قرأت هذا الكتاب أحسست بأن كل فلسطيني في هذا البلد هو محمود درويش.. هل قرأت هذا الكتاب من قبل؟ بالطبع قرأته... وهل يوجد فلسطينيٌ في العالم كله لم يقرأ لدرويش، وإن كان لا يحبّه؟
إيمان بشير