سقط في حرب سوريا ما يناهز 50 ألف قتيل، وتهجّر أكثر من ستمئة ألف إلى خارج البلاد، ونزح مئات الآلاف إلى مناطق أكثر أمناً داخل سوريا نفسها. هذا فضلاً عن دمار كبير لحق بالاقتصاد (راجع مقال الكاتب عن الخسائر الاقتصادية في «الأخبار» عدد 31 كانون الثاني 2013). والمأساة الإنسانية لم تتوقّف على المهجّرين، بل شملت من لم يغادروا منازلهم أيضاً. وراوحت تقديرات عدد الذين يعانون ضائقة معيشية طارئة بين مليوني شخص وفق تقارير الأمم المتحدة و2.5 مليون شخص وفق الهلال الأحمر السوري، و3.2 ملايين شخص حسب تقديرات رئيس الوزراء السوري وائل الحلقي.
القتلى والجرحى: أرقام ومعطيات

منذ بدء الأزمة دأبت فضائيات عربية ومواقع رصد معارضة على ذكر عدد القتلى يومياً وقد راوح تقديرهم بين مئة قتيل ومائتي قتيل. وفي غياب أرقام دقيقة وموثّقة واحتمال عشوائية ما أذيع، فإذا ما جُمع عدد القتلى منذ شهر آذار 2011 فقد يكون خمسين ألفاً. ولقد ذكر في تشرين الثاني الماضي «المرصد السوري لحقوق الانسان» أنّ عدد القتلى في الحرب السورية بلغ 45 ألفاً، لكن بعد أيام خرجت رئيسة مفوضية حقوق الانسان في الأمم المتحدة، نافي بيلاي، برقم مفاجئ وكبير هو 60 ألفاً. فأصبح رقمها الأكثر تداولاً في وسائل الإعلام. كيف لا وقد صدر عن الأمم المتحدة؟ لكن بعض الصحافيين، ومنهم روبرت فيسك، شكّكوا في إطلاق رقم كهذا بدون تفاصيل معقولة تُقنع المراقب، وخصوصاً أنّ الأمر يتعلّق بحرب تُعدّ أهلية في بعض أوجهها. ورأى فيسك تصرّف بيلاي أمراً خطيراً وغير مسؤول يسهّل لمن يريد أن يستغّله بالادعاء أنّ كل هؤلاء القتلى هم ضحايا النظام!.
لقد تعمّدت بيلاي الإيحاء أنّ القتلى هم «ضحايا النظام»، ما دفع فيسك وغيره إلى التساءل عن عدد القتلى من جنود الجيش السوري وقوى الأمن والقوى المناصرة للدولة والمدنيين الذين يقفون إلى جانب السلطة، وحتى المدنيين المحايدين الذين يريدون الأمن والاستقرار فحسب، ولا يؤيدون السلطة. وتكّهن فيسك أنّ عدد قتلى جنود القوى النظامية هو 10 آلاف، وعدد القتلى المدنيين الذين ناصروا السلطة 13 ألفاً وعدد قتلى الجنود المنشقين 5500، وعدد قتلى المعارك بين الفلسطينيين في مخيم اليرموك هو 400 وأنّ أكثر من 15 ألف قتيل هم من الجماعات المسلحة ومناصريهم. فإذا كان عدد القتلى في صفوف القوى النظامية صحيحاً (10 آلاف) فهو مرتفع جدّاً نسبيّاً، وربما فاق عدد شهداء الجيش السوري في كل حروبه ضد إسرائيل.
لقد استنتج فيسك أنّ هدف بيلاي من نشر التقرير كان للضغط على البيت الأبيض ومجلس الأمن، أي التحريض الإعلامي ضد الدولة السورية. ونوايا بيلاي كانت واضحة لدى إعلانها التقرير عندما خلصت في مؤتمرها الصحافي إلى القول إنّ هذا الرقم (60 ألفاً) هو «برسم مجلس الأمن الدولي فماذا ينتظر ليتحرّك؟»!!. وأهملت بيلاي مسألة تحديد هوية القتلى إذا ما كانوا من المدنيين أو من الجماعات المسلحة أو من القوى النظامية، حتى ظن متلقّي الرقم أنّهم جميعاً ضحايا بشّار. فأصبح قولها هذا (أي حثّها مجلس الأمن على التحرّك) الأكثر تداولاً في وسائل الإعلام لأيام عديدة.
ولم تكن هذه المرّة الأولى التي حرّضت فيها بيلاي ضد سوريا، بل جاءت ضمن سلسلة تصريحات لها رسمت صورة شديدة السلبية عن «دموية النظام السوري الذي يقتل شعبه». فهي دعت ونظّمت لقاءات ومؤتمرات أسهمت في الحرب الدبلوماسية ضد سوريا والضغط لتطبيق البند السابع وغزو «الأطلسي» لسوريا، ورافقت وتيرة تصريحاتها تلك التي كانت تصدر من معارضات الخارج. فكان هذا الرقم وتوقيت إعلانه قبل أيام من ولاية أوباما الثانية وغموض مضمونه موضع تكهنات واستهجان، استُغل ليدفع إلى بدء حرب ضد سوريا. ثم أخذ الرقم ينتشر ويصبح قيد التداول في مقالات الصحف وعلى ألسنة السياسيين على أنّه رقم رسمي من الأمم المتحدة، لا جدال فيه.
لقد قالت بيلاي إنّ الرقم مبني على دراسة وافية استغرق إعدادها خمسة أشهر!!! ولم تكن هذه هي الحقيقة، بل إنّ الرقم استند إلى تقرير أعدّته شركة أميركية خاصة هي بنيتك Benetech. وهي شركة تموّلها وزارة الخارجية الأميركية ومؤسسة National Endowment for Democracy السيئة الصيت التي يدعمها جورج سوروس لتخريب الدول من الداخل. ولقد سألت وكالة أنباء أميركية مكتب بيلاي عن كيفية اتخاذ قرار تمويل الدراسة، وماذا كانت كلفتها وهل جرت عبر مناقصة وفازت هذه الشركة بعينها، وخاصة أنّ مصادر تمويل هذه الشركة يجعل ما يصدر عنها مريباً ويضعف صدقيتها. فلم يجب مكتب بيلاي!!!.
المهجّرون: كارثة انسانية
أقام المهجّرون داخل سوريا لدى أقاربهم أو في شقق مستأجرة وفي 500 مبنى للدولة و2000 مدرسة حكومية، وفي معاهد تابعة لوكالة غوث اللاجئين. وبات عدد كبير منهم يعاني ضغط العوز والحاجيات اليومية من ماء ودواء وغذاء وحاجيات شخصية، وأصبح حتى الاستحمام مسألة بعيدة المتناول. ففي مطلع عام 2013 كان ثمّة كارثة انسانية تتبلور أمام أعين الرأي العام العالمي، حيث كان ما يناهز المليوني سوري بحاجة إلى مساعدة ماسة وطارئة من مؤسسات الأمم المتحدة وجمعيات الإغاثة ودوائر الدولة السورية. فليتصوّر المرء حاجات هؤلاء اليومية من ماء وغذاء ووسائل الراحة الجسدية من استحمام وغسيل ونوم، والحاجة الدائمة إلى أغطية ومناشف وألبسة دافئة وأحذية وأدوية وأدوات التدفئة، وعدّة المطبخ ووسائل التنظيف والمحروقات والغاز. والمصيبة أنّ أغلب الأماكن التي لجأ إليها المهجّرون لم تكن صالحة للسكن البشري، فلا هي مدفّئة ولا مجهّزة بمراحيض ومغاسل، وفي أحيان كثيرة كانت بدون كهرباء. وقد قدّرت الأمم المتحدة أنّ توفير أسباب العيش لكل هؤلاء احتاج إلى مليار دولار سنويّاً وربما أكثر، منها 520 مليون دولار يجب توافرها بسرعة.
أمّا الذين غادروا سوريا، فقد لجأوا إلى الدول المجاورة: الأردن والعراق ولبنان وتركيا. وبعضهم تمكّن من المتابعة إلى أوروبا ودول عربية أخرى. وإذ أقام معظم المهجّرين في شقق وأبنية رسمية في مدن العراق ولبنان، توزّعوا في مخيمات لاجئين في الأردن وتركيا، ما عرّض كرامة الانسان السوري للإهانة، أكان في شظف العيش في خيمة أم في حرمانه معظم الأساسيات وأموراً اعتادها، أو المعاملة التي لقيها من المسؤولين ومن قوى الأمن، وخاصة في الأردن، أو استغلال جماعات حاجة اللاجئين إلى المساعدة لافتراس الفتيات السوريات. ولقد نقلت صحف غربية تقارير أنّ «نساء وفتيات سوريات لا تتجاوز أعمارهن 14 سنة عرضن للبيع بالزواج القسري المؤقّت أو البغاء» و«أنّ مئات اللاجئات السوريات في الأردن عانين هذه التجارة... حيث يقوم رجال يطمعون فيهن باستخدام عملاء لاستخدامهن لأغراض الجنس». وأنّ الأمن الأردني يطلق الرصاص أحياناً على اللاجئين.
* أستاذ جامعي لبناني ــــ كندا