يُحيي البحرينيون غداً، الذكرى الثانية للانتفاضة، شأنهم بذلك شأن دول ما بات يعرف بالربيع العربي. لكن لهذا الشعب حكايته مع الثورة، وليس المقصود هنا أنها لم تُثمر بعد، لأنّها تُركت وحيدة ونسي العالم، أو تناسى، صرخات أبنائها على مدى أشهر متواصلة من القمع، لأسباب طائفية وجيوبوليتيكية، بل لأنّ ما عاشوه في الرابع عشر من شباط 2011، لم يكن إلا فصلاً من فصول ثورتهم الدائمة.
البحارنة، كما يستحسنون تسميتهم في إشارة إلى أنّهم السكان العرب الأصليون وليسوا كآل خليفة (من العتوب) الذين غزوا الجزيرة في أواخر القرن الثامن عشر آتين من قطر ونصّبوا أنفسهم حكاماً عليها، كانوا ولا يزالون في حالة ثورة دائمة. عاشوا فصولاً منها في العقد الأخير من القرن الماضي. في بداية السبعينيات، حين انتفضوا على مطالب إيران، التي ادّعت مُلكاً بالأرخبيل بعد اكتشاف النفط، وذلك من خلال التصويت بنسبة 98 في المئة على استقلال إمارتهم في استفتاء أجرته الأمم المتحدة بعد خروج المستعمر البريطاني. انتفضوا في أواخر السبعينيات والثمانينيات، وطالبوا بإعادة العمل بدستور 1973، الذي عطّله الأمير، وبالعدالة والمساواة بعدما احتكر آل خليفة السلطة السياسية والثروات، ووزّعوا ما بقي من فُتات على أتباعهم من القبائل والطائفة السنّية، وهو ما لوّن الأزمة بصبغة طائفية.
لقي المنتفضون الحصار والمنفى والاعتقال. مع ذلك واصلوا الانتفاضة، فلا يئسوا ولا استكانوا، وكانت فترة التسعينيات مليئة بالاحتجاجات التي تطورت إلى أحداث العنف. والحراك الذي شهدته وتشهده المملكة حالياً لا يكاد يرقى إلى ما عاشته في تلك الفترة، وقمعته السلطة بقيادة الأمير عيسى بن سلمان، الذي يروي العالمون بالأمور أنّه كان أميراً «مغيّباً عن الوعي» ينام في النهار ويصحو في الليل، ويظنّ أن حال الرعيّة بخير وتعيش في عزّ ووئام، وكان القابض على الأمور شقيقه رئيس الوزراء الحالي خليفة بن سلمان آل خليفة.
النضال لم يذهب سُدى هذه المرّة. وحصد البحارنة ثمار انتفاضتهم التسعينية في بداية الألفية الثالثة بعدما جاء إلى الحكم الأمير حمد بن عيسى، الذي عاد ونصّب نفسه ملكاً على جزيرة لا يتعدى عدد سكانها الأصليين 600 ألف نسمة، ولا تتجاوز مساحتها 750 كيلومتراً مربعاً، وأطلق إصلاحات تاريخية؛ أفرج عن المعتقلين السياسيين، وسمح للمعارضين في الخارج بالعودة إلى البلاد، وبتأسيس الجمعيات السياسية. كذلك جرى تضمين مبادئ التغيير السياسي التي أطلقت في ميثاق العمل الوطني (تناول المقومات الأساسية، نظام الحكم، الأسس الاقتصادية للمجتمع، الأمن الوطني، الحياة النيابية، العلاقات الخليجية، العلاقات الخارجية) الذي صوّت عليه البحرينيون في استفتاء عام بنسبة 98 في المئة.
وقد سمحت هذه الإصلاحات للأحزاب المعارضة بالعمل في الضوء، وكفلت هامشاً من حرية التجمع والتعبير. تأسست بعدها العديد من الجمعيات. دخلت هذه الأحزاب بقوة إلى الحياة السياسية عبر الانتخابات المتتالية. لكن كان لدى المعارضة العديد من المآخذ على دستور 2002، الذي صدر في إطار الإصلاحات؛ فهو افتقر إلى الشفافية منذ البداية؛ إذ لم تشارك في كتابته الشخصيات المعارضة كما ينبغي. كذلك فإنه أنشأ مجلسين في إطار المجلس الوطني: النواب المنتخب والشورى المعين، وأعطى سلطة ترجيح للشورى على النواب المنتخب.
ذلك لم يمنعهم من المشاركة في حكومة 2006، حيث مُثِّل الشيعة لأوّل مرّة بأربعة مناصب وزارية، وكانت المرّة الأولى التي يشغل فيها منصب نائب رئيس الوزراء شيعي، ودخل بموجب هذه الإصلاحات أول وزير بحريني من أصل إيراني. لكن الأفضلية في المناصب الحكومية الحساسة بقيت للسُّنة (الداخلية والدفاع)، وقضية المساواة والعدالة الاجتماعية، لم تُحلّ، وبقي احتكار آل خليفة للسلطة والثروات. افتقار هذه الإصلاحات إلى المضامين الفعلية للعدالة والمساواة دفعت بنشوء تيارات معارضة، رفضت المشاركة في الحكومة والانتخابات ونشطت في الداخل والمنفى لتحقيق إصلاحات حقيقية شاملة.
مع هبّات الربيع العربي انتفض البحارنة من جديد، بما أنّ أرضيتهم خصبة. وكانت بوادر هذه الانتفاضة قد بدأت بالظهور قُبيل الربيع بأشهر، حين ضيقت السلطات على المعارضين، وأعادت معزوفة الخلايا الانقلابية المدعومة من إيران. قُمعت انتفاضة اللؤلؤ بعد تدخل عسكري خليجي، وخصوصاً سعودي، الذي وجد في الحراك تهديداً لعروشه، وثغرة لولوج «العدوة اللدودة»، إيران إلى ربوعه، بما أن غالبية المنتفضين شيعة.
تواصلت الحملة الأمنية شهراً تلو شهر، استُخدمت أبشع أنواع الانتهاكات، من القتل والاعتقال والإهانة والتضييق والفصل من الوظائف والتعذيب، واستخدمت الورقة الطائفية بفنّ وبراعة لخلق الشرخ الأهلي، ثم بث الفرقة بين الجمعيات السياسية المعارضة لوهلة. لكن المسيرات تواصلت، وانتشر أبناء البحرين في مختلف أرجاء المعمورة لإيصال أصوات أقرانهم في ظل حصار أمني وإعلامي ودولي. نجحوا في إجبار النظام على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة وبيّنوا الظلم الذي لحق بهم، وعرّوا النظام وصمت المجتمع العربي والدولي، الذي رفض انتفاضتهم من منطلق طائفي.
انتفاضة التسعينيات أثمرت إصلاحات تاريخية وملكاً، لكن لم تُستكمل ولم تحقق العدالة المفقودة. انتفاضة اللؤلؤ، لم تُثمر بعد، وإن لم يكن الملك الحالي قادراً على دخول التاريخ كما حاول قرع بابه من قبل، ربما عليه أن يتنحى ويفسح المجال لمن هو أقدر.
شهيرة...

لا مصالحة دون إشراك الجميع



وصلت الأزمة في البحرين اليوم الى حالة من المراوحة. النظام لم يُقدّم بعد أي تنازلات بخصوص المطالب، التي سبق أن أجمع عليها كل أبناء البحرين عشية اندلاع الانتفاضة، لولا استخدام الورقة الطائفية. لكن المعارضة أيضاً، لم تسحب ورقة الشارع، بل نجحت في إعادة رصّ صفوفها بعد الصدع الذي أصابها، ووسّعت نشاطها الى الخارج، حيث نجحت في استقطاب المجتمع الدولي الى جانبها، ودفعته بالتالي الى الضغط على النظام كي يجري حواراً، مرّة أولى وثانية.
وهذه المراوحة لا ترتبط فقط بنقاط قوة كل من المعارضة والنظام، وإنما أيضاً بما يجري في المنطقة من متغيرات، ولا سيما في الملفين السوري والإيراني، حيث ستعمل الدول الفاعلة على زجّ الملف البحريني في حزمة أي تسوية إقليمية.
الجولة الثانية من الحوار الذي يجري اليوم هو مرحلة تقطيع للوقت، وتخدير للأزمة. إذ لا يمكن أن يكون هناك حلّ جذري، من دون مصالحة وطنية شاملة؛ ومصالحة تشمل المعارضين في السجن والمنفى، الذين يخوّنهم النظام، وتستحي منهم المعارضة، وإن لم تقلها جهارة. هؤلاء هم المحرّك الأساسي لائتلاف شباب 14 فبراير، «دينامو» الانتفاضة ووقود استمرارها. ورغم قدرة الانتفاضة، الى حدّ ما، على المحافظة على سلمية تحركها، لكن من يُلقي «المولوتوف» على عناصر الشرطة ودورياتها، ومن يحاصر الطرقات، ومن يخرج ملثّماً في الشوارع ويُلاعب عناصر مكافحة الشغب لعبة القط والفأر بين أزقة القرى، ليسوا من المعارضة الوسطية؛ هؤلاء ينتمون الى التيار «المرفوض» من قبل الجالسين على طاولة الحوار اليوم. لذلك، لا يمكن الحديث عن حوار وطني، ومصالحة شاملة، إن لم تشمل هؤلاء، وإن لم تحمل هواجسهم وتأخذ بمطالبهم.
تقول المعارضة، وتحديداً «الوفاق»، إنّها تمثل الغالبية بفعل انتخابات 2010. لكن هذه الانتخابات جرت في ظل مقاطعة التيارات المحظورة، وبالتالي لو أُتيح للناخب الاختيار اليوم، لربما تبدّلت المقاييس، وأصبحت التيارات المحظورة رقماً صعباً في المعادلة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة الى أنّ هذه التيارات وجماهيرها رفعت مطلب إسقاط النظام، لكن ذلك ما كان لولا تلكؤ النظام وصدّه جميع أبواب الحوار. وفي حديث مع «الأخبار»، يروي المعارض البارز، الأمين العام لحركة «الأحرار»، سعيد الشهابي، الذي يقيم في لندن، كيف أنّ الملك حمد حاول أن يتواصل مع معارضي المنفى، ووعدهم بالإصلاحات وبالتجاوب مع مطالبهم. كان جدّ مستمعاً. وطلب منهم تحضير ورقة للتحاور، على أن يتواصل معهم لاحقاً لهذا الغرض سفير البحرين في لندن؛ فجاء ردّهم إيجابياً، لكن «هناك حفرنا وهناك طمرنا»، غادر الملك وغاب عن الوعي، وكأنّه لم يعد بشيء.
حديث الشهابي كان في معرض ردّه على الذين يصفونهم بالرافضين والمعرقلين، فيما أنّ الملك يظهر كشخص منفتح. شخصية الملك هذه هي من انبهر بها شريف بسيوني، لذلك كان يقول لكل من يحدّثه عن ظلم تعرّض له، بوجه تلبسه ملامح المفاجأة، إن «الملك لا يعلم، ولن يسمح به إن علم» كما يروي من لقيه.
إضافة الى تغييب هذه التيارات، فانّه لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية شاملة من دون انخراط الملك فيها شخصياً، كما لا يمكن أن تكون مصالحة شاملة من دون محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات بحق الجميع.

حسين يوسف*

أدق مع بقية البحرينيين باب العام الثاني للهجرة الأوسع للمعارضة في تاريخ بلدي الحديث؛ في تجربة ورثنا تبعاتها من أجيال تعاقبت على الفشل في تغيير واقع هذه الجزيرة المبتلاة التي لم يحكمها أهلها، بعد. مع كل إشراقة صباحٍ أذكّر نفسي، «فلتطل... ولكن لتكن الأخيرة».
دخلت القوات السعودية إلى البحرين وأُعلنت الطوارئ. وفيما كان على البحرينيين الشجعان مواجهة تحدّي الحفاظ على جذوة الثورة في الداخل، كان على آخرين، مثلي، تحويل مهجرهم إلى ثقل ضاغط على كاهل سلطة الاستبداد، ومن يساندها، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. قليلو الحيلة والخبرة، ماذا يملك 580 ألف مواطن بحريني ليربحوا معركة في وجه البترودولار الخليجي، والتواطؤ الدولي، والتبعية العربية التي لم تنجح في التخلص منها حتى دول «ثورات الكرامة» في المنطقة. نقف وحدنا أمام التجاذبات الإقليمية والدولية. أقصى ما وجدناه خلال عامين من الحراك في الخارج معاملتنا كورقة، مرّة في اليمن، ومرّة في ليبيا، واليوم في سوريا. وفيما ينال المهاجرون البحرينيون في مختلف الدول الأوروبية شيئاً من الاعتراف بإنسانيتهم، فإنّ على من يلهج بلسان الثورة في البلدان العربية الاعتياد على «سمفونية» الاتهامات والانتقاص. «أتباع إيران»، «ليست ثورة»، «المدّ الشيعي»، مصطلحات لا تعبّر عنا بقدر ما تبيّن تغلغل المفردات السعودية في ضمير شعوبٍ لا تنظر للمُواطنةِ كقيمةٍ تكفي كدافع للمطالبة بأبجديات ما تفرضه من حقوق.
وقفت مراراً على باب شيخ الأزهر؛ في آذار 2011، كان الشيخ أحمد الطيب ينظر لفيلم الشهيد البحريني الوسيم أحمد فرحان مفضوخ الرأس من خلال «اللابتوب»، عبثاً يشيح بوجهه عن بشاعة المنظر، ولكنّها كانت الزيارة الأخيرة للمعارضة، التي تبنّت علناً وثيقة الأزهر للدولة المدنية. اليوم يتأبّط «الإمام الأكبر» ذراع وزير خارجية البحرين. عامان لم يتذكر فيهما شيخ الأزهر رأس فرحان؛ نفس الرأس الذي كانت الدعوة السلفية في الفيوم تجبي به التبرعات لسوريا، لا يتذكّره إلا لتحذير إيران من التدخل في شأننا، الذي تبين أنّه ليس شأننا.
عامان، قضيت منهما شهرين في خيمة أمام جامعة الدول العربية، في أحلك أيام «محمد محمود»، وفضّ العسكر لميدان التحرير في تشرين الأول 2011. أُحرقت خيمتي مرّتين، وتنشقت عبق مسيّل دموع وزارة الداخلية، غير أن الرسائل الثلاث التي بعثتها باسم المعارضة إلى السيّد نبيل العربي، وتسلّمها مستشاره طلال الأمين، كانت تجد لها مكاناً خاصاً في درجه، أو زبالته، ربما. العربي زار ملك البحرين، وشدّ على يديه في مدّ الخط الأحمر أمام طموحنا في تحقيق المواطنة، والتي أصبحت بقدرة قادر خطراً على عروبة البحرين.
عامان، وقفت فيهما غير مرّة أمام باب حزب «النهضة» التونسية، ورئيس مكتب الشيخ الغنوشي، الذي أتمّ له لاجئو البحرين في لندن إجراءات لجوئه يوماً ما. اليوم، يكفي أن يعرف كبير مستشاريه أنك معارض بحريني، ليكون هذا آخر كوب ماء لك في المكتب.
عامان، وجدتني فيهما في غزّة مع الأطباء البحرينيين الذين طالتهم سياط الملك، جامع السلطات في ذاته المصونة. اكتشفت أن ما تم جمعه من أموال البحرينيين، يسلّم هناك أيضاً باسمه وباسم أبنائه حصراً. وعليك أن تعتاد حين تدعو لأهلها وحكومتها بالصمود والنصر، جواب الدعاء بأن ينصر الله جلادينا على أطماع أعدائهم، نحن.
عامان، من عروبتنا المتهمة في عواصم العرب. وإنسانيتنا القابلة للمساومة في جيوب الشرق والغرب. عامان، من غربة مركّبة تفرضها الرغبة في التغيير في بلدٍ خليجيٍ نفطي. عامان، تسبح فيهما في فلك الهبّة العربية، ولكن، رغم ذلك، تسبح عكس التيار. عامان أدركنا فيهما غربتنا الأخرى، لا لأننا لا نرغب في بيع مواطنتنا فحسب، بل لأننا أيضاً لا نملك ما نبيعه في سوق لعبة الأمم.
* ناشط بحريني يقيم في القاهرة

أحلام خزاعي*

لم يكن 14 فبراير 2011، إلا خيالاً يداعب مخيلتي. لم أتوقع حين انتظرته لأطلق جناحيّ نحو الحرية أن أشهد ما شهدت. حين كنت أتسمر أمام شاشات التلفزيون لأشاهد انفراط عقد ثورات الربيع العربي، لم أتوقع يوماً أنني سأكون جزءاً من هذا المشهد.
المرأة البحرينية. اللؤلؤة الثمينة. كانت في قلب الصدف، تحمل هم الوطن وتعيش معاناته وتعاني الإقصاء والتمييز. خرجت من أعماق البحر. صرخة حرّة أبيّة: بالروح بالدم نفديك يا بحرين.
هكذا أتذكر أول يوم من الثورة بالقرب من دوار اللؤلؤة. خرج الناس بكل أعمارهم وفئاتهم، وسلميتهم، ليواجَهوا بالقمع والرصاص الانشطاري وكل وسائل العنف، وليصل إلى مسامعنا وقوع الشهيد الأول. وكلما ازداد الناس ثورة، ارتفعت وتيرة السلمية، في شجاعة غير مسبوقة، لتواجه آلة الموت بصدور عارية، ولنصل إلى الدوار، ونعيش بضعة أيام، عيشة الأحرار. كانت بضعة أيام فقط تنشقنا خلالها نسيم الحرية قبل أن نُقمع من جديد. لا تُمحى من ذاكرتي كيف ذُبح الشباب العزل والشيب المسالمون من دون أي جرم سوى أنهم طلاب حق.
توالت بعدها الأحداث. كنا نشاهد الشهداء والجرحى في المستشفيات، ولم يكن لدينا الوقت حتى لنبكي. نوثق الحالات ونساعد الجرحى ونبلسم آهات الأمهات ونتواصل مع الإعلام. لا وقت لنبكي. إنها الثورة. اليوم يمرّ عامان لا نتذكّر فيهما إلا ظلم السلطة وبطشها، ومئة شهيد وآلاف الجرحى والمعتقلين والثكالى، يقابله صمود شعب أسطوري لا يكلّ ولا يملّ، ولن يستكين إلا بتحقيق هدفه القضاء على الديكتاتورية.
* رئيسة دائرة شؤون المرأة في «الوفاق»

علي الأسود*

لم تجد المعارضة صعوبة في نسج العلاقات مع الخارج عقب الانتفاضة، بما أنّها انفتحت عليه منذ تأسيس الجمعيات في بداية الألفية الثالثة. في السابق، اعتاد الحكم أن يستفرد في مخاطبة المجتمع الدولي، لكن هذا الأمر تبدّل. لقد نجحت المعارضة في تثبيت علاقة استراتيجية مع الخارج، بفضل لغة التواصل الصريحة، وهو ما أسهم في بناء جسور الثقة.
الغرب بدوره، أبدى اهتماماً خاصاً، بملف البحرين. وجاء تشكيل لجنة التحقيق الدولية، بضغط خارجي على النظام، وتحديداً، بعد زيارة ولي العهد (الأمير سلمان) لواشنطن ولقائه الرئيس الأميركي باراك أوباما.
بعدها استنفرت المعارضة جهودها في عواصم القرار، ولا سيما في واشنطن ولندن وجنيف، فيما كان هناك تفاعل خاص من قبل باريس وبرلين معها. وانفتحت أيضاً على المنظمات الدولية. وفي موازاة اللقاءات التي كانت تجري دوماً بين المعارضين في الداخل والسفارات الأجنبية، حيث كان هناك دور لافت للسفارة البريطانية، كانت وفود المعارضة في الخارج تلتقي المسؤولين وتطرح قضية شعبنا.



كان الهدف خلق فجوة للتلاقي مع النظام البحريني. كنا نبحث عن الشريك السياسي، فوجدناه في مبادرة ولي العهد ووثيقة المنامة.
التحول الكبير في موقف المجتمع الدولي، بدأ مع خطاب الرئيس الأميركي، باراك أوباما في أيلول 2011، الذي ذكر فيه المعارضة البحرينية، وتحديداً جمعية «الوفاق». وجاء بعده خطاب الأمين العام للجمعية الشيخ علي سلمان، في دوار اللؤلؤة، الذي أكّد احترام المعارضة للاتفاقيات الدولية. وبالنسبة إلى واشنطن، فإن هذا التعهد في غاية الأهمية، بما أنّ أكبر أسطول بحري لها موجود في مملكتنا.
خلال لقائنا مع المسؤولين، كان هناك تفاهم على الانتقال الديموقراطي، لكن التفاوت في وجهات النظر كان بخصوص العلاقات مع الجوار والدول الخليجية؛ لكن هذا الاختلاف لم يرق الى مستوى الخلاف.
مئات الجولات أجريناها في الخارج بين أوروبا وأميركا. نقلنا بموضوعية ما حصل من انتهاكات، وجاء تقرير بسيوني ليؤكّد صدقنا، وهو ما خلق ثقة بين المعارضة والمجتمع الدولي. رفعنا خطابات الى بان كي مون وكاثرين آشتون ونافي بيلاي. خطابات دفعت بهم مع الوقت الى إرسال رسائل سرّية وخاصة الى حكام المنامة تطلب منهم الانصياع الى مطالب الشعب.
مع ذلك، فإنّ هذه الاجراءات لم تكن كافية. أثرنا معهم قضية ازدواج المعايير. كيف تعاملوا مع مطالب شعب البحرين، ومطالب الشعب السوري. فهم يدعمون المعارضة في سوريا ضد النظام، لماذا لا يفعلون ذلك مع شعب البحرين.
مع المثابرة وكثرة اللقاءات، تحول موقف المجتمع الدولي، من موقف سؤال وجواب الى موقف داعم، وخصوصاً بعد إطلاق وثيقة اللاعنف. استُقبلنا بعدها لأول مرة في لندن بصورة رسمية، حيث التقينا وزير الشؤون الخارجية ألستر بيرت. وتوالت بعدها اللقاءات. عرضنا مطالبنا أمام لجنتي حقوق الإنسان والخارجية في مجلسي اللوردات والنواب. واجتماع لجنة حقوق الإنسان التابعة لمجلس النواب كان بحضور وفد حكومي وجاء بعد تقرير بسيوني.
ونتيجةً لهذه الاجتماعات والجهود، بدأ النواب البريطانيون يوجهون سؤالاً أسبوعياً الى حكومتهم، لشرح موقفها مما يجري في البحرين. كذلك أُنشئت لجنة تحقيق بريطانية لمراجعة العلاقات بين بريطانيا والسعودية والبحرين. ويفترض أن ترفع هذه اللجنة توصياتها قريباً، وسيكون لها أثر بالغ على إعادة تقويم العلاقة بين لندن والنظامين البحريني والسعودي. لقد نجحنا في استقطاب دعم غالبية النواب البريطانيين، إضافة الى دعم المنظمات الحقوقية الدولية شأن «أمنستي» و«هيومن رايتس ووتش». وأسهم زيف السلطة بنقل ما يجري داخل المملكة في مزيد من الاصطفاف الى جانب المعارضة.
وبالنسبة إلى الموقف الأميركي، أتوقع أن يتحسن مع وصول جون كيري الى وزارة الخارجية؛ فموقف هيلاري كلينتون كان ضبابياً؛ خطابها عند دخول قوات «درع الجزيرة» الى البحرين كان شيئاً، وبعده كان شيئاً آخر. لكن كيري موقفه أكثر وضوحاً، فقد تحدث في بداية الانتفاضة صراحة عن الانتهاكات، وشخصية مثله يمكن أن تدفع الإصلاحات قدماً في المملكة.
* نائب بحريني سابق
عن جمعية «الوفاق»، يقيم في لندن


آيات قرمزي*

كان ذلك اليوم مختلفاً. حتى شمسه كانت مختلفة تماماً عن أي يوم. شمسه التي كانت تخبر سكان هذه الأرض، بأن خطباً ما سيحدث. رغم عدم وجودي على تلك الأرض في حينها، إلا أنّ شعاع شمسها وصل إليّ حيث كنت، وتدفق الدم في شراييني هو الآخر بطريقة غير معهودة. كنت أحارب الثواني والدقائق لأعود إلى أوال (الاسم القديم للبحرين) العز. أوال التضحية. أوال الإباء.
وبعد حرب طويلة مع الزمن عدت إلى أرض الوطن، وقد فُقد ما فُقد من الأنفس الطاهرة التي تأبى الذل.
عدتُ إلى أوال والفخر بوطني وشعبه الأبي يرفع هامتي تلقائياً. وما إن وطئت رجلي ثراه، جرفني الشوق إلى عاصمة الثورة المنامة، حيث تجمع عشرات الألوف من البشر، التي كانت تؤدي فروض الولاء في دوار اللؤلؤة، متوضئة بحب الوطن. لم أكن مشتاقة إلى أهلي بقدر اشتياقي إلى تلك البقعة، التي احتضنت الشيب والشباب الصغار والكبار، نساءً ورجالاً، الأطفال وحتى الرضع.
كلّهم خرجوا تزامناً مع الربيع العربي رفضاً للظلم والبغي والاستبداد. ولم يكن ذلك بجديد على أرض الصمود؛ فهذا الشعب الرافض للعبودية، لطالما انتفض على كل طاغٍ يتلذّذ باستعباد شعبه. كل عقد من الزمن مرّ في وطني فجّر البركان الراكد في نفوس أبناء أوال. كانت أوال تنتفض كل عشر سنوات تقريباً، فتُمطَرُ بوابل من الوعود الزائفة. وتنسى التنكيل والتعذيب وشتى أنواع الانتهاكات، وتتصالح مع ذوي الوعود الخرقاء. لتعود وتكتشف أنّ تلك الوعود لم تكن سوى تخرّص وضحك على عقول البشر، وتنتفض مجدداً وهكذا دواليك. الرابع عشر من فبراير لم يكن بداية للثورة، بل كان استئنافاً لمسيرة الشعب البحريني المناضل.
عاش الشعب وقتذاك كما لم يعش من قبل. وُلد كل مواطن من جديد في فبراير. كان يتنفس الحرية في بقعة اللؤلؤ، ويستنشق الكرامة التي لم ينلها من قبل في وطنه. عاشوا في حلم جميل. كان حلماً، وأفاقوا منه عنوة بعدما غزت الجارة جارتها. غزتها لتقمع حلمها الجميل، لتخنق الحرية فيها، لتمتص الصمود من دمها. وحلّ الغيهب على تلك القلوب الصابرة؛ حلّ محملاً غيماً
أسود.
فُرضَ على هذا الوطن المسلوب ما يسمى فترة السلامة الوطنية، ولم تكن سلامة قطّ، كانت مهانة وأي مهانة. أُهين الوطن والشعب والدين. غدروا بالوطن بسماحهم للغرباء بغزوه. غدروا بالشعب بقتلهم له وسجنهم له وتعذيبهم له وتنكيلهم به. غدروا بالدين بهدمهم لبيوت الله، وحرقهم القرآن، وبالتعدّي على الحرمات، وبضرب عرض الحائط بتعاليم ديننا. غدروا بالوحدة حين روّجوا للطائفية، حين همشوا مكوّناً كبيراً من مكونات الشعب.
ولم يكتفوا. بل روجوا للأكاذيب والأقاويل الملفقة في إعلامهم الأعمى لتشويه سمعة الثوار. وحتى اليوم لا يزال هذا النظام يُراهن على ثبات الشعب، ولا يزال هذا الشعب واثقاً من النصر لتعلو إرادة الوطن فوق أنقاض النظام... وتستمر الحكاية.
* شاعرة بحرينية اعتُقلت وعذّبت

معصومة محمد ميرزا*

تجسّد حكاية الرياضي محمد ميرزا، معاناة هؤلاء الرياضيين الذين فصلوا من عملهم وسُجنوا وأُهينوا ظلماً وبهتاناً، فقط لأنّهم مؤيدون لمطالب الشعب أو حتى من غير طائفة النظام، أهكذا يكافأ من رفع علم بلاده عالياً في المحافل الدولية؟ زوجي محمد ميرزا هو أحد أبطال رياضة «الجيوجيتسو»، وهو لاعب ومدرّب لهذه الرياضة حائز العديد من الميداليات والجوائز الداخلية والدولية، ولعلّ أهمها كان في عام 2008 في بطولة العالم لـ«الجيوجيتسو» في البرازيل، كما حصل على ذهبيتين في هذه البطولة والعديد من الميداليات في العديد من البطولات.
محمد ميرزا كان يزاول هذه اللعبة، ويعمل على الاحتراف بها ونشرها في مملكتنا العزيزة، ولذلك فتح نادي «المحاربون» لرياضة «الجيوجيتسو».
مأساته بدأت في تاريخ 16 آذار 2011، حين اعتُقل عند نقطة تفتيش نحو الساعة الرابعة عصراً. بقينا بعدها لأكثر من شهر ونصف شهر ونحن نبحث عن محمد في أكثر من مركز للشرطة، من دون أن نتوصل الى شيء عن مكانه. بقينا في حالة قلق وذعر إلى أن تلقينا اتصالاً من الشرطة العسكرية بوجوب الحضور إلى المحكمة العسكرية، وأُبلغنا بأن محمد متهم في المشاركة بمحاولة خطف شرطي بالاشتراك مع 9 أشخاص. حين لقيته للمرّة الأولى في السجن، كانت آثار التعذيب واضحة على جسده.
مرّت الأيام ثقيلة وحُكم على جميع المتهمين العشرة بـ20 عاماً، ثم عادت محكمة الاستئناف وخففت الأحكام بعد أقل من شهر الى 15 عاماً سجن لكل متهم، لنعود ونخوض من جديد معركة محكمة التمييز، حيث تواصلت المحاكمة بصورة هزلية لمدة 5 أشهر، وأُدليت شهادات تُثبت عدم وجود زوجي أو ارتباطه، لا من قريب ولا من بعيد في هذه القضية، فضلاً عن عدم وجود أي صلة أو معرفة سابقة بالأشخاص المتهمين معه في نفس القضية.
مع ذلك، جاء الحكم صادماً. برئ الجميع إلا محمد ميرزا، وحُكم عليه بالسجن 10 سنوات؛ حكم نهائي لا يقبل الطعن أو المراجعة، كان وقعه كالسكين في قلبي؛ فعائلتي مشتتة، وزوجي مسجون ظلماً، وابني الصغير جبرائيل يعيش أولى سنوات عمره من دون أب، وأنا فُصلت من عملي. حين نطق القاضي بالحكم، لم يكن يحكم على زوجي فقط، بل عليّ وعلى العائلة وعلى ابننا. محمد ميرزا بطل العالم في «الجيوجيتسو»، كان يحاول جاهداً، على نفقته الخاصة، أن يرفع اسم البحرين عالياً، وهذا كان
جزاءه.
* زوجة الرياضي محمد ميرزا

يوسف ربيع*

عندما سُئل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، باستهجان من سائله، عن سبب زيارته لطهران بعد أسابيع قليلة من سقوط الشاه، أجاب: لا بد لنا من أن نكون موجودين حيث تولد الأفكار.
هكذا في زمن الثورة في البحرين الأفكار تولد أيضاً على الرغم من عنف السلطة وقسوتها. لقد كانت الجدران أصدق مثالاً على قدرة البحرينيين على استيلاد خطاب سياسي وإنساني مغاير يعبّر في أصله عن مطالب ورغبات حاصرتها جدران السلطة.
ثمّة واقع سياسي مثقل بالاستبداد تكشفه كتابات الجدران في البحرين؛ فالسلطة تظهر على حقيقتها متناقضة، هي التي صدّقت على ما يزيد على ثماني معاهدات واتفاقيات دولية، أكثرها يحرّم مصادرة حرية التعبير ويبيح التجمعات السلمية.
ليست الكتابة على الجدران في الثورات العربية حكراً على البحرينيين؛ فقد شهد ميدان التحرير كتابات ورسومات سياسية طالبت بإسقاط النظام ورحيل مبارك. كذلك كان الأمر في ساحات تونس واليمن؛ ما تميز به البحرينيون على جدرانهم هو أنهم حوّلوها إلى أداة لتأريخ الثورة وتجلياتها السياسية والاجتماعية. ويمكن المهتمين بالحدث السياسي أن يتمكّنوا عبر الجدران من انتزاع المفاهيم الكبرى للثورة البحرينية، وملامسة مدى الانتهاكات التي وقعت، وهذا بحدّ ذاته واحد من ولادة الأفكار.
لقد تكلمت الجدران في البحرين بمنأى عن مراسيم الملك، وبدون إذن رئيس الحكومة وأجهزة الأمن لتقول إن الحرية لا تؤطّر بدين أو طائفة، وإن حكاية الشيخ القرضاوي عن الثورة، حين عدّد الثورات العربية واستثنى منها الثورة البحرينية، وقال إنها ثورة طائفية، منقطعة السند. لقد اصطادته هذه الجدران واقعاً أو مهووساً بعطايا الملوك، أو محاصراً بمقولات شيوخ السلفية والتكفير.
الجدران في البحرين، بخطابها السياسي المتنوع والمتعاكس في أحيان، بدءاً بالمطالبة بالديموقراطية وليس انتهاءً بإسقاط النظام، كسرت جدران السلطة التي أرادت أن تحاصر الثورة في التفسيرات الطائفية تارةً، وفي اتهامها بالتبعية للخارج تارة أخرى، وذلك تمهيداً لعزلها محلياً وعربياً.
هذا ما عبّرت عنه الجدران المحيطة بدوار اللؤلؤة وجدران البلدات والمناطق، وحتى جدران المباني الأمنية وقصر الصافرية، وهو قصر الملك الذي قصدته جموع المشاركين في المسيرة العتيدة في آذار 2011.
هذه الكتابات الملونة تحمل ميزة خاصة هي خطاب الثورة المضادة لرواية شيطنتها ورميها بالعنف والفوضى. لم يكن من الصعب على الجدران أن تحكي عنفاً طالما أوغلت السلطة في استخدامه ضدّ المتظاهرين؛ حكايات العنف والتعذيب لم يستطع بسيوني في تقريره الشهير إخفاءها، على الرغم من جهود السلطة في الإغراء أو التنصل.
هذا العنف المؤلم ارتبط في غالبيته بتاريخ عائلة آل خليفة منذ قدومها إلى البحرين منذ 230 عاماً. العائلة التي حرص ملك البحرين على مراعاة وحدتها، مقابل وحدة الوطن، وهو ما أعلنه صراحة شريف بسيوني في أحد لقاءاته الصحافية حين خيّر ملك البحرين بين أمرين: إما وحدة العائلة أو وحدة البلاد، فاختار الأخير وحدة العائلة، وبقي الوطن في أزمته السياسية، يكابد أهله معاناة الجرائم.
يبقى أن نشير إلى أن ثمّة علاقة بين الجدران والهدم. لقد هدمت السلطة دوار اللؤلؤة، وهدمت عدداً من المساجد والأضرحة، إلا أنّ الهدم لم يقدر على أن يطال الجدران الممتدة على مساحات الجزيرة، ولم يكن أمام السلطة حينها إلا المحو حيناً، أو طلي الجدران حيناً آخر، ما يكشف عن خوف من بقاء هذه الكتابات، بسبب قدرة إيقاعاتها على تغذية الأفعال الثورية.
ثمّة نسق ثوري كشفته جدران البحرين، وينمّ عن الثقافة السياسية المخزونة في نفوس المناضلين من أبناء الشعب البحريني في تطلعاتهم وطموحاتهم، هكذا يقول أحد كتاب الجداريات، مضيفاً «إذا كان النظام يملك السلاح والجيش والإعلام، فإننا نملك جدراناً تحمل ثقافة عميقة أمام جحافل الاستبداد وحالة الدكتاتورية».
إنّ شرعية الكتابة على الجدران تستمد قوّتها من شرعية الثورة، حسب المدوّنين لكتاب «جدران 14 فبراير» الذي أصدرته «مرآة البحرين». جداريات البحرين لها استثناء خاص عن رديفتها في القاهرة وتونس وصنعاء، في النسق المكاني؛ فالبحرين هي واحدة من الإمارات الموجودة في الخليج، والحكم فيها لمشيخات لا تزال تنظر الى دعوات الديموقراطية على أنها تهديد لمصالحها وتعويض لنفوذها القبلي والعائلي. لذلك نجحت في أن تكون أداة للبحرينيين في التدوين في عصر الربيع العربي الذي تمت مصادرته واحتواؤه لصالح سياقات متعاكسة في العلن، ومتناغمة في الفضاء.
عامان على الثورة البحرينية، ولا تزال الجدران شاهدة وباقية، تحكي قصصاً من النضال الإنساني. ولا يزال البحرينيون يبدعون في تشكليها، وسط غياب صحافة الشعب الممنوع من حرية التعبير والمبعد طائفياً عن شاشات التلفزة الوطنية، إضافة إلى التشويه، الذي يمارسه الإعلام العربي ليل نهار.
أبرز توليد لأفكار الجدران في يوم ولادتها في 14 فبراير يقول إن الثورة البحرينية لم ترفع سكيناً، لكنّها تذبح بسكاكين الأنظمة المتصالحة في بلاط الاستبداد.
* رئيس منتدى البحرين لحقوق الإنسان

ألين مايسون مورتاغ*

عندما بدأت الاحتجاجات في البحرين، كنت متحمسة جداً لما يجري. تابعت التطورات عبر «تويتر» ومواقع التواصل الاجتماعي، بما أنّ الإعلام فقد اهتمامه بما يحصل في الجزيرة بعد أول أسبوع من الاحتجاجات.
لقد سبق أن عشت في البحرين في فترة التسعينيات، وهو ما سمح لي بمعرفة العديد من الأشخاص، الذين يعيشون في القرى المنتفضة. ونتيجة الإهمال الإعلامي، شعرت بضرورة التواصل مع الشعب في البحرين ودعمهم بأي طريقة ممكنة. مع أن هذا الشعب لا يحتاج الى أحد من أجل حلّ قضاياه، لكن من الأهمية لهم أن يشعر أن صوته مسموع، وأن معاناته ملحوظة.
في بداية أشهر الانتفاضة، كنت على علاقة مع أفراد عائلات معتقلين، وصرت أعمل على إطلاق سراحهم، بكل ما أملك من قدرة. أرسلت رسائل إلكترونية، واستخدمت وسائل التواصل الاجتماعي لنقل حكاياتهم ومعانتهم، وبدأت أيضاً بإعداد التماسات. ولاحظت أنه كلما كانت القضية مصدر اهتمام الناشطين الدوليين والإعلام، خرج الشخص أسرع من السجن.
وفي العام الأول للانتفاضة، سنحت لي الفرصة بأن أزور البحرين مرّة جديدة. لقد سبق أن عشت هناك، لكن هذه كانت المرة الأولى التي اختبر فيها البحرين الحقيقية. قضيت أسبوعي الأول في قرية السنابس مع إحدى العائلات. ربّة هذه العائلة هي أقوى امرأة عرفتها حتى اللحظة. ومع أنها صغيرة الحجم وفتية، لكنها لم تكن تخشى أحداً أو شيئاً. تحمل من الحب والكرامة الى بلدها وأتباعها، أكثر مما تحمل الى نفسها. تمضي أكثر أوقاتها بالتنقل من منزل الى آخر لتقديم العناية الطبية لأولئك الذين تعرضوا للضرب والرصاص. لحقت بها في كل ما كان، وشهدت للمرة الأولى حجم الفقر في البحرين ومعاناة المواطنين من أجل تأمين حاجاتهم اليومية.
شهدت الاحتجاجات السياسية. كان المشهد رائعاً؛ الآلاف احتشدوا معاً، بسلمية، كي يهتفوا ويغنوا. ومن دون سابق إنذار، تهاجمهم الشرطة بالرصاص المطاطي وكميات ضخمة من القنابل الغازية. كانت تجربة جد قاسية، أن يشعر المرء في مرحلة ما بأنه غير قادر على التنفس ولا يستطيع أن يرى. ظننت لوهلة أنني أموت. ضعت بين الحشود، وأصبت بالذعر وأنا احاول أن أجد مكاناً آمناً التجئ إليه، قبل أن يساعدني أحدهم. لم أكن أشعر بالأمان في البحرين، الا عندما أكون بين المتظاهرين والقرويين.
زرت أيضاً قرية سترة. رافقت الآباء والأمهات في دفن أولادهم، الذين قتلوا بنيران نظام آل خليفة. شهدت دهم عناصر الشرطة للقرى، وشهدت الشباب يرمون «المولوتوف» باتجاهم لحماية قراهم. شاهدت فتياناً يتلقون الضرب من الشرطة، ويُمنعون من تلقي العلاج الطبي اللازم. هذه ليست حياة طبيعية كي يحياها شعب، لكن مع الوقت يصبح لدى الناس هناك مناعة لهذا النوع من السلوك ضدهم، وهو ما حصل لي، لقد أصبح لدي مناعة وفقدت الشعور بالخوف.
في 14 شباط 2012، الذكرى الأولى للانتفاضة، كانت قرية السنابس محاصرة، كما كل القرى. نقاط تفتيش في كل مكان، ودوريات للشرطة تطوف الشوارع، والدبابات تتنقل من مكان لآخر. لم يكن آمناً لي أن أترك المنزل، لكنني تدبرت أمر خروجي من منزل إلى منزل في القرية ذلك اليوم وتحدثت مع المواطنين واستمعت إلى حكاياتهم، الكثير منهم كان مرعوباً.
قبل ليلة من طردي خارج البلد، التقيت فتى لا يتجاوز 16 عاماً، اسمه علي، من السنابس. كان يختبئ بعدما اختطفه أربعة رجال مقنعين. ضربوه وجردوه من ثيابه وسلخوا جسده بشفرة. نظفت جراحه واحضرته الى منزل نبيل رجب لتوثيق حالته. كان خائفاً جداً، لكن شجاعاً جداً في آن واحد. قررت حينها أن أقود مسيرة نسائية من دون أن ارتدي ثياب المرأة العربية، كما كنت أفعل طوال الأسبوع. هذا ما فعلته، وانتهى بي الأمر معتقلة ومرحّلة من البلاد. المعاملة التي تلقيتها من السلطات كانت مرضية جداً. الفتى علي تعرض بعد ذلك، للخطف للمرة الخامسة، وترك في الشارع، عارياً ومكبل اليدين ومعتدى عليه جنسياً بخرطوم أنابيب. لا أزال حتى اليوم اتواصل مع هذا الفتى الشجاع، وآمل أن يساعده الدعم الذي يتلقاه من شعبه ومني على الشفاء من جروحه خلال السنوات المقبلة.
تركت البحرين وأنا مصابة بالتهابات رئوية جرّاء الغازات المسيلة، لكنني عرفت أن الشجاعة والقوة التي شهدتها من هذا الشعب، ستؤدي قريباً الى انهيار النظام الخليفي.
الشعب البحريني يستحق أن يعيش حياته في سلام وطمأنينة، ومعاناتهم المستمرة يجب أن تصل الى المجتمع الدولي، وعلى المسؤولين عن الانتهاكات أن يحاسبوا. سأظل على دعمي لشعب البحرين، ما داموا يريدون مني ذلك.
* ناشطة إيرلندية عاشت في البحرين

رولا الصفّار*

ما ذنب الكوادر الطبية. أن يتم اعتقالهم وزجّهم في السياسة. كلما سُئلت عن حكايتنا أتساءل بأي ذنب؟ هل أصبح ميثاق مهنة الكوادر الطبية جريمة يعاقب عليها كل من يحفظ ويصون شرف هذه المهنة؟ كلّ ما فعلناه هو إنقاذ الأرواح وتأدية واجبنا الإنساني وتعريض حياتنا للخطر لهذا الغرض. أين العالم من كل ما جرى ويجري بحق الطواقم الطبية، وبحق المدافعين عن حقوق الإنسان شأن نبيل رجب، الذي وقف وتحدّى القمع والفتك والظلم إبان السلامة الوطنية، ومن العسكريين شأن علي الغنمي، الذي رفض إطلاق الرصاص على أبناء شعبه؟ ما ذنب الأستاذ مهدي أبو ديب؟ لأنّه نقابيّ وتعامل مع القضية بحقه النقابي. يزعمون أن البحرين مملكة دستورية، فأين هو الدستور الذي يتحدثون عنه. وكيف يحترمون اتفاقيات جنيف. لن يكون هناك حل سياسي في البحرين في القريب، سيتطلب الأمر أعواماً لتضميد الجرح المفتوح. سجناء الرأي يقبعون في الزنازين، في مملكة تدّعي الحرية والشفافية. نبحث عن بارقة أمل، ونقطة ضوء، لكنني لا أرى سوى السواد؛ قد ترجع البحرين الى ما قبل الستينيات، حين كان ينشط العمل السرّي. وربما أسوأ، قد تضرب اليد الأمنية من جديد، فاستعدّوا يا شعبي.
* طبيبة بحرينيّة تعرّضت للاعتقال والتعذيب


محمد المسقطي*

في عام 2007، كنت أشارك في دورة تدريبية في عمان، الأردن، حول «النضال السلمي» تنظمها منظمة صربية وكنت لا اتجاوز في حينها الـ20 عاماً. بعد عودتي إلى البحرين قررت أنا ومجموعة شباب أن نؤسس «مركز شباب بلاعنف» من أجل نشر أفكار المهاتما غاندي ومارتن لوثر كنغ والثورة الصربية ضدّ الاستبداد والديكتاتورية. وبدأنا بعمل ورشات عمل وفعاليات في كل قرى البحرين، لكن السلطات اعتقلت معظم الأعضاء في المركز وحكمت عليهم بالسجن. قررت لاحقاً المحكمة الجنائية الصغرى في عام 2009، أن تصدر حكمها ضدّي بدفع غرامة مالية قدرها 1500 دولار بتهمة «تأسيس جمعية من غير ترخيص».
مع ذلك، لم أفقد وزملائي الأمل، بالرغم من الآلام التي انتابتنا جراء اعتقال رفاق لنا، خصوصاً أننا كنا نحضّر مؤتمرات متعلقة بالديموقراطية وحقوق الإنسان، ونراقب كيف تهتم الدول الكبرى بحقوق الإنسان والديموقراطية، وتحمي المدافعين عن حقوق الإنسان.
مع بداية الربيع العربي، عاد الأمل من جديد، لا سيما بعدما رأينا ما حدث في تونس ومصر، وكيف استطاع الشباب إسقاط الديكتاتورية والاضطهاد. بدأت دعوات الاحتجاجات تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وبدأت بدوري، بمراسلة وسائل الإعلام لأخبر العالم أن شعب البحرين قرر التظاهر من أجل الديموقراطية، وجاء أول ردّ من صحيفة «نيويورك تايمز»، التي أكدت حضورها لتغطية الاحتجاجات.
في 13 فبراير 2011، وصل وفد مكون من ثلاثة صحافيين من «نيويورك تايمز»، رافقتهم في جولة الى القرى. في فجر 14 فبراير، انتفضت قرية النويدرات، فقمعتها السلطات. ومع ساعات الصباح الأولى، وصلت مع الوفد الإعلامي الى القرية، فوجدنا المصابين والمتظاهرين يداً بيد. وفي ساعات المساء، كانت التظاهرات قد عمت أرجاء البحرين، وانتهت بمئات الإصابات في صفوفها جراء قمع الشرطة، ومن ضمنهم علي مشيمع، الشهيد الأول للانتفاضة.
في الصباح ذهب مع الوفد الى مستشفى السلمانية، لنقل جثة مشيمع إلى المقبرة، لكن ما أن خرجنا من باب المستشفى حتى أطلقت قوات الأمن الرصاص الانشطاري اتجاهنا، وأُصيب حينها الشهيد الثاني المتظاهر فاضل متروك.
رغم هذه الآلام، فاننا كنا نعيش الأمل في دوار اللؤلؤ، المركز الرئيسي للاحتجاجات، حيث نصبنا خيمة «جمعية شباب البحرين لحقوق الإنسان» من أجل رصد الانتهاكات التي حصلت خلال التظاهرات وإعداد قوائم بأسماء المعتقلين والمصابين، إضافة الى تثقيف الناس بأهمية «النضال السلمي».
هل فقدنا الأمل عند قمع الاحتجاجات وهدم دوار اللؤلؤ وسريان قانون الطوارئ؟ لا. لم نفقد الأمل، لكن هذه المرّة كبر الألم عندما رأينا المجتمع الدولي والدول الكبرى التي تدافع عن مبادئ حقوق الإنسان، لا تطبق أياً من هذه المبادئ في البحرين.
فقدنا الأمل في المجتمع الدولي الذي تخلى عن مبادئه من أجل مصالحه. فقدنا الأمل عندما رأينا كيف أصبح الضحية والجلاد في سلة واحدة. فقدنا الأمل عندما لم نر من يقف الى جانب شعب البحرين.
لكن، لا يمكن للألم أن يستمر ولابد للأمل أن يعود. على الرغم من أننا نعيش الذكرى الثانية للثورة، فإن الشباب البحريني مستمر في النضال السلمي من أجل تحقيق مطالبه، ولا تزال الاحتجاجات تنعش هواء الحرية في البحرين. ورغم تزايد أعداد المعتقلين والمصابين والقتلى يوماً بعد يوم، لكن استعداد الشباب للتضحية من أجل العدالة والحرية وحقوق الإنسان والديموقراطية يزداد أيضاً.
هل حقق الشباب ما يرغبون به؟ لا، أعلم بعد. لكني أؤمن بأن من يعيش في البحرين، ويرى وجوه الشباب والابتسامة التي لا تفارق وجوههم يعلم بأن الشباب حققوا ما يرغبون به؛ لقد خلعوا ملابس الاضطهاد والديكتاتورية والظلم وارتدوا ملابس الحرية والنضال من أجل الديموقراطية. الثورة الفكرية والوعي السياسي بين شباب البحرين بعد 14 فبراير كانا الانتصار الحقيقي للثورة، وهذا سوف يساهم في تحقيق انتصارات أخرى قريباً.
على المحتمع الدولي أن يدرك أن الشعوب سوف تنتصر في النهاية، وأن الأجيال سوف تواصل النضال السلمي من أجل رسم طريق الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وأن الشباب دائماً هم الوقود الذي يحترق كي ينير هذا الطريق.
على المجتمع الدولي أن يفهم أن المبادئ ليست نصوصاً فقط لتقرأ في المؤتمرات الدولية، بل هي أفعال وأعمال لتحقيق العدالة للشعوب.
على المجتمع الدولي أن يفهم أن المدافعين عن حقوق الإنسان سوف يبقون في الخط الأمامي، وإن نزفوا حتى الموت، وإن لم يكن هناك من يحمي ظهرهم ويغطي رأسهم من استهداف الأنظمة الديكتاتورية.

*رئيس جمعية شباب البحرين لحقوق الإنسان