تونس | لا تزال تونس تعيش أصداء اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد، حيث بدا الانقسام واضحاً ليس على مستوى الأحزاب فحسب، بل على مستوى الشارع أيضاً، فيما أعلن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية رسمياً انسحابه من الحكومة بعد إعلان رئيسها حمادي الجبالي تمسّكه بحكومة «تكنوقراط». وفي الوقت الذي رحّبت فيه أحزاب المعارضة والمنظمات الوطنية وحزب التكتل الشريك الثالث في الائتلاف الحاكم بمقترح الجبالي، واصل رئيس الجمهورية المؤقت، منصف المرزوقي، مشاوراته مع رجال القانون للبحث عن مخرج دستوري للأزمة الدستورية يعفي الجبالي من شرط الحصول على موافقة المجلس التأسيسي.
وأكد خبراء القانون أن رئيس الحكومة، استناداً الى الدستور الصغير «قانون السلطة العمومية»، لا يُلزَم بتقديم حكومته الى المجلس التأسيسي ما دام سيقوم بـ«تعديل وزاري» وليس تشكيل حكومة جديدة، إذ سيحافظ عدد من الوزراء التقنيين المستقلين على عضويتهم في الحكومة.
الجبالي كثف من مشاوراته من أجل تجاوز الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها تونس، والتي تهدد مستقبل الانتقال الديموقراطي، في ظل هشاشة الوضع الأمني الذي تدهور في بعض جهات البلاد. وقد تنامى منسوب العنف، إذ تعرض موكب الزعيم المعارض نجيب الشابي لاعتداء عندما كان عائداً من جنازة الشهد شكري بلعيد، كما تم اقتحام منزل مسؤول محلي في الحزب الجمهوري في منطقة القيروان وتعرض لاعتداء ومحاولة طعن بسكين، في الوقت الذي يتواصل فيه حرق مقار الحزب الحاكم النهضة وكذلك المقار الأمنية وتخريب الممتلكات العامة والخاصة.
ومن أجل إقناع الشركاء الأوروبيين، التقى الجبالي سفراء الاتحاد الأوروبي في تونس، كما بدأ مشاورات مع الأحزاب السياسية قبل تشكيل حكومته في تركيبتها الجديدة التي قال إنه سيقدمها منتصف الأسبوع. وأعلن أنه سيستقيل في حال اعترض عليها المجلس الوطني التأسيسي.
وحصل الجبالي على مساندة من أحزاب المعارضة ومن اتحاد الشغل واتحاد الأعراف، كما حظيت مبادرته بارتياح كبير في الشارع التونسي الذي بدأ يرى في هذه المبادرة المخرج الوحيد من العنف والحفاظ على الشرعية، بما يمكن أن ينتج من ذلك من مآس وهزّات لا تتحملها بلاد محدودة الموارد تعيش على السياحة أساساً مثل تونس.
وعلى خلاف الأحزاب السياسية المعارضة والقوى الاجتماعية، لا يزال الجناح المتصلب في حركة النهضة يرفض مبادرة الجبالي. لكن المؤشرات لا تبشر بخير. ففي ردّ فعل على الجنازة المليونية التي شاركت فيها القوى الديموقراطية بعد اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد، دعت حركة النهضة أنصارها والمتعاطفين معها الى مسيرة لدعم الشرعية ونبذ العنف ظهر أول من أمس. وانطلقت المسيرة من أمام مقر النهضة برفع شعارات تدعو الى الجهاد ضد المجتمع التونسي. واستهجنت النخبة السياسية هذه الشعارات، لكن رئيس كتلة الحركة في المجلس التأسيسي، الصحبي عتيق، تبرّأ من هذه المجموعة، وقال إنها لا تمثل الحركة.
في المقابل، تظاهر نحو ٣ آلاف من أنصار الحركة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحملوا العلم الوطني والأعلام السوداء التي ترفعها التيارات السلفية الى جانب أعلام النهضة. ورفعوا شعارات تندد بالشيوعيين والعلمانيين وحزب نداء تونس وبقايا النظام السابق و«إعلام العار». وهو الخطاب نفسه الذي عرفته النهضة منذ انتخابات العام قبل الماضي.
لكن الجديد في التظاهرة التي تمت في هدوء تام في شارع الحبيب بورقيبة، هو حضور عدد من الوزراء الذين ألقوا خطباً حماسية في أنصارهم مثل لطفي زيتون الذي استقال أخيراً، ووزير النقل عبدالكريم الهاروني الذي اتهم رئيس الحكومة حمادي الجبالي بأنه «يقود انقلاباً» من داخل الحكومة. وهو نفس رأي الحبيب اللوز، القيادي المحسوب على التيار المتشدد في النهضة، الذي دعا الى مسيرة مليونية ظهر الجمعة المقبل لدعم الشرعية.
والتقت كل هذه المداخلات على رفض مبادرة الجبالي باعتبارها تستهدف الشرعية. كذلك شارك في المسيرة وزير أملاك الدولة عن حزب المؤتمر سليم بن حميدان، الذي قدّم عرضاً بالإنجازات التي حققها في مكافحة الفساد وفتح ملفات سوء التصرف وسرقة المال العام في عهد المخلوع.
هذه المسيرة التي رفعت فيها أيضاً شعارات ضد فرنسا والباجي قائد السبسي الذي يتهمونه بإعادة إحياء النظام السابق، كشفت أن تيار «الصقور» هو الغالب في حركة النهضة، ما يجعل من نجاح مبادرة الجبالي محل شك.
وقبيل انعقاد مجلس شورى حركة النهضة، استبعد المراقبون أن يُستبعد الجبالي عن رئاسة الحكومة لسببين: أولهما أن عدداً من نواب النهضة يساندون الجبالي ويقدرهم البعض بثلاثين نائباً من جملة ٨٩، كما أن عدداً من نواب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحركة وفاء قد لا يعارضون تشكيل حكومة تنقذ البلاد تحظى بقبول سياسي وشعبي.
أما السبب الثاني فيكمن في تراجع التيار المتصلب في الحركة أمام المصالح العليا للبلاد التي تبدو على مفترق طرق حقيقي. المعارضة التي تسيطر على الشارع والنقابات وقوى المجتمع المدني من قضاة ومحامين وصحافيين وأطباء ورجال أعمال يساندون مقترح الجبالي، وفي حال رفضه من النهضة سيضغطون من أجل حل المجلس التأسيسي بما يدخل البلاد في أزمة الشرعية وكل ما يترتب عليها من أزمات أمنية وسياسية.
وفي انتظار يوم غد، موعد إعلان الجبالي حكومته، تسعى كتلة النهضة الى تشكيل تكتل داخل المجلس الوطني التأسيسي للدفاع عن الشرعية، فيما تواصل المعارضة المشاورات لإعلان «ائتلاف الإنقاذ الوطني». فإلى أين تتجه البوصلة التونسية؟