دمشق | لا يمكن تصديق هذه المشاهد من قلب دمشق: خِيمٌ في الحدائق. والزمان: أيامٌ قبل المنخفض الجوي الذي أثلج طقس دمشق والمنطقة عموماً. الوضع بقي أياماً طويلة قبل أن تقرّر الدولة السورية تفكيك الخيم، وإجبار ساكنيها على مغادرة الحدائق واختيار أماكن أُخرى للنزوح. لماذا كانوا هُنا؟ سؤال لا يمكن التغافل عنه. سيجيبك أحد سكان الخيَم: «لقد نزحنا عن منطقتنا. حاولنا قصد وسط دمشق؛ فهي أكثر أماناً من مناطق أُخرى». يتساءل خالد، رب أسرة من داريا المنكوبة، عن الرحمة قائلاً: «دمّر المسلحون منزلي لأني موالٍ للرئيس بشار الأسد. هربتُ مع أسرتي، بداية إلى المزة، غير أني خشيت من التهديدات المتلاحقة للمنطقة الموالية للنظام، فحملتُ أطفالي من جديد، واتجهت نحو وسط دمشق. فاجأتني الأسعار الخيالية. هل حقاً هؤلاء أنفسهم هم السوريون الذين فتحوا بيوتهم يوماً للعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين؟». تفتّقت أشجان السوريين على مثل هذه الأسئلة أمام هول الأرقام الفلكية المطلوبة لدى استئجار شقة في العاصمة، فغرفة مستقلة يطلب فيها الدمشقيون 40 ألفاً، أي ما يعادل 400 $. أما الشقق الكاملة في المناطق الآمنة «نسبياً» فهي تصل حتى 70 ألفاً. ويبقى تساؤل خالد يرنّ في الآذان: «السوريون الذين احتضنوا الأشقاء، أيأكل بعضهم بعضاً اليوم؟».
عماد، صاحب مكتب عقاري في القصاع، يجد أنّ أصحاب المنازل هم الذين طمعوا ورفعوا سقف مطالبهم في الدفع، والمشكلة كانت في بعض الزبائن الذين اضطروا إلى مجاراتهم والقبول بدفع ما يطلبون. من أين المال؟ يجيب عماد: «لا أدري. هذا ما يفاجئني. ربما البعض استخدم مدخراته التي وفرها سنوات ليهرب من الموت المجاني اليوم».
أسمهان، صاحبة منزل في شارع بغداد، لم تقبل برفع الإيجار أسوة بباقي أصحاب المنازل، إلّا أنها وضعت شروطاً صعبة للغاية قبل أن تؤجر شقّتيها الصغيرتين. فمن يستأجر لدى السيدة أسمهان يجب أن يكون موالياً للسلطة أو أنّه لن يحصل على الشقة، فإن تبيّن أن ولاءه ليس صافياً، غالباً، يُطرَد، إذ إنّ المرأة حريصة على مراقبة المستأجر جيداً وعدّ أنفاسه والتبليغ عنه في ما لو لمحت بعض الشكوك حول نشاطاته.
ومعظم السوريين الذين نزحوا إلى الحدائق وسكنوا الخيَم هم ممن لم يستطيعوا التماهي مع الإيجارات المرتفعة. ربما لم يقرروا تسجيل موقف، إنما شاءت أقدارهم أن يهربوا من الموت إلى العراء. هي صرخة استمرّت أياماً قبل أن تعالجها الدولة كعادتها بعدم الإصغاء وإجبار هؤلاء على الالتحاق بمراكز الإيواء التي تعاني عادة أوضاعاً مزرية.
صورة الطفل السوري المتسوّل التي ارتبطت بمفهوم النزوح اتحدت مع صورة السوري الذي يكاد يموت جوعاً أو برداً، فيما تحاول مؤسسات المجتمع المدني وبعض مؤسسات الدولة توفير الأساسيات من أغطية وسلال غذائية وأدوية، وذلك في ظروف عمل صعبة تجعل من النتائج غير كافية. وحال النازحين الذين اختاروا الخيَم حلّاً وحيداً، لم تختلف عن حال النازحين الذين احتالوا على الأسعار المرتفعة من خلال اشتراك عائلتين أو ثلاث بتقاسم إيجار شقة واحدة مهما صغرت مساحتها. خطوة اتبعها الكثير من العائلات هرباً من الكارثة الإنسانية التي تحلّ بمناطقهم. ليسجَّل للسوريين أن كلّاً منهم يهرب بأساليب متعددة من قنص شريك الوطن له، مرّات يكون القنص بالمال، ما يؤدي إلى النزوح... ومرّات قد يكون رصاصاً، ما يجعل الموت سيد المشاهد جميعاً في بلاد كساها أخيراً الثلج والعنف معاً.