لا يمكن فصل الأحداث الأخيرة في مصر عما ظهر خلال الشهرين الماضيين من مؤشرات مريبة قد تكون فاتحة لعودة الجيش إلى الساحة السياسية، هذه المرة من بوابة مدن قناة السويس، التي سلمها الرئيس محمد مرسي، بقراره إعلان الطوارئ فيها، إلى المؤسسة العسكرية على طبق من ذهب، بعدما تم تحويلها إلى فزاعة جديد، بعد استهلاك فزاعة سيناء واستنفاد فاعليتها.
المؤشرات يمكن تلخيصها بتحقيق أهداف الحملة الدعائية ضد سيناء بنجاح كبير. وهو تفزيع عموم أهل وادي النيل من الواقع الميداني فيها ورسم صورة ذهنية لها وكأنها تورا بورا أفغانستان أو وادي سوات باكستان، ما يبرر التواجد العسكري الميداني في شوارع المدن وعلى الطرق والمفاصل الرئيسة، لتنتقل الأمور إلى استحداث فزاعة أخرى هي قناة السويس. فزّاعة أقوى بكثير من الحدود الشمالية الشرقية لسيناء، لأن القناة تعدّ أكثر ارتباطاً بالمصالح المباشرة لقطاع كبير من المواطنين، بالإضافة إلى دوغما الأمن القومي والدخل القومي وبعض المسلمات في الوعي الجمعي عن تاريخ القناة ودلالات تعرضها للخطر أو تعطل المجرى الملاحي فيها.
وما يعزّز تنفيذ هذا المخطط اعتبار إقليم القناة أكثر أقاليم مصر غير الحدودية عسكرة وخضوعاً لهيمنة الجيش على الحياة المدنية، فتجد ــ مثلاً ــ مقر الاستخبارات العسكرية في قلب مدينة الإسماعيلية يقصده المواطنون لاستخراج العديد من التراخيص في الشؤون المدنية. كما أن إقليم القناة يحوي أكبر نسبة من السكان من عائلات الضباط والجنود الذين استوطنوه بعد حرب 1973. وهو إقليم متصالح وجدانياً مع العسكر الذين شاركوه المقاومة والنضال التاريخي المسلح منذ الاحتلال البريطاني. ومن الصعب جداً إحداث رفض شعبي واسع أو غضب تجاه الجيش.
بناء عليه يمكن تقدير أن الاضطرابات لها طرفان مستفيدان؛ الطرف الأول هم الحريصون على الفوضى الانتقامية، والطرف الثاني هم المخططون لتوظيف الفوضى والتفزيع الأمني لإعادة ترتيب الأوراق داخلياً وإقليمياً بما يخدم مصالحهم، سواء السياسية أو الوظيفية أو الاقتصادية. وهو الطرف الذي سيساوم مرسي والإخوان على مكاسب سياسية ونفوذية استثنائية. إنه طرف عسكري أو خاضع للهيمنة العسكرية (الاستخبارات العامة يفترض أنها هيئة مدنية لكنها خاضعة تماماً للعسكريين).
ويبدو أن محمد مرسي وقع في خطأ فادح بإعلان حالة الطوارئ في إقليم القناة بالكامل لمدة ثلاثين يوماً، وهو ما يحقق مخطط العسكر، أو حتى يزيد عن ذلك، وخصوصاً أن مرسي أهدى إلى العسكر محافظة الإسماعيلية، الأكبر مساحة وسكاناً وتنوعاً في إقليم القناة، رغم أنها لم تشهد اشتباكات موسعة ولا حرب شوارع كالتي شهدتها مدينتا السويس وبورسعيد. لكن الإسماعيلية بمنظور الخرائط الاستراتيجية تعد ثغرة كبيرة تفصل ناصيتي القناة التي يريد العسكر فرض الهيمنة عليها. والأهم من ذلك أنه بحكم العسكر للإسماعيلية فقد تم عزل سيناء عن وادي النيل. فمحافظات القناة الثلاث تمتد حدودها الإدارية مقتطعة من شبه جزيرة سيناء، وبإمكان العسكر الآن أن يقطعوا المواصلات بين سيناء والوادي في فترة حظر التجوال.
عملياً بات العسكر يحكمون الآن فعلياً ثلاثة أقاليم في مصر ليس للدولة المدنية أي سلطان عليها إلا بإذنهم. أولاً: سيناء المحكومة بالاستخبارات العسكرية في كافة شؤونها، ثانياً: الحزام الحدودي الجنوبي والغربي، فضلاً عن محافظة البحر الأحمر. وأخيراً: إقليم القناة كاملاً بقرار من عضو مكتب إرشاد الإخوان المسلمين حديث العهد برئاسة أكبر بلد عربي. وهو خطأ استراتيجي مركب قد يكلفه كرسي الرئاسة، أو على الأقل كثيراً من صلاحياته، إذ إن العسكر يحاصرون العاصمة بنعومة وخطوتهم المقبلة قد تكون العاصمة نفسها. الآن أمام العسكر تحدي أن يفرضوا الانضباط في شوارع مدن القناة ليثبتوا للرأي العام أن حكم العسكر أقوى وأكثر أمنا من حكم الإخوان. لديهم فرصة ذهبية لصنع نموذج ناجح مصغر لتسويقه سياسياً وجماهيرياً، مخاطبين حاجة الناس للأمن، ليقولوا إن نار الجيش أهون من جنة الإخوان. لذلك فإن إعلان الطوارئ قد يكون البداية الفعلية لانتهاء حكم الإخوان من وجدان الشعب، ثم الخضوع لهيمنة غير مسبوقة للعسكر على الحياة المدنية، أو الإتيان برئيس أكثر انبطاحاً لهم.