القاهرة | دماء ونحيب واضطهاد وتمييز. عبارات تختصر واقع الحال في مدينة بورسعيد، المدينة الباسلة التي تصدّت للاحتلال البريطاني لمصر وللعدوان الثلاثي. معاناة المدينة، الممتدة منذ عهد نظام حسني مبارك، أخذت منحى أكثر حدة في ظل حكم الإخوان، بعدما تحول «عراك» في ملعب كرة قدم بين خصمين الى خصومة بين «شعبين»، شعب القاهرة وشعب بورسعيد، فيما اختار الرئيس وجماعته أن ينحاز الى شعب القاهرة. انحياز دفع البورسعيديين الى الانتفاض بوجه نظام استعداهم بموجة غضب واسعة، أسقطت أول من أمس أكثر من 30 قتيلاً. انطلقت شرارة هذه الانتفاضة مع قرار محكمة جنايات بورسعيد، أول من أمس، إحالة أوراق 21 متهماً على مفتي الديار المصرية لاستطلاع رأيه الشرعي في إعدامهم من عدمه، على أن تصدر المحكمة حكمها النهائي ضدّ المتهمين الـ75 في قتل 73 من مشجعي النادى الأهلي (ألتراس أهلاوي) خلال مباراة الأهلي والمصري البورسعيدي في شباط العام الماضي. البورسعيديون اعتبروا الحكم نهائياً بإعدام جميع المتهمين، ومحاولة من النظام الإخواني لتكريس التمييز المباركي ضدّ شعب المدينة. فهذا الشعب عاش حكاية تهميش سابقة مع حسني مبارك، عندما حاول أحد أبنائه تسليم مبارك ورقة تتضمن شكوى، فظنّ حراسه أن الرجل يريد أن يغتاله. الشبهة التصقت ببورسعيد طوال حكم مبارك، ومعها انطلقت حكاية طويلة من الاضطهاد للمدينة.
الحكاية الجديدة اليوم بدأت عندما حاول النظام الحالي تهدئة أجواء غضب «ألتراس الأهلي»، ومنع تلاحم ذكرى ثورة «25 يناير» مع الحكم المنتظر في قضية مجزرة إستاد بورسعيد، فاستخدم الرئيس نائبه العام لإرسال مذكرة قانونية الى محكمة جنايات بورسعيد يطالبها بضرورة تأجيل الحكم في القضية لوجود وقائع جديدة ومتهمين جدد. خطوة كان من شأنها تأجيل غضب الألتراس، الذين رفعوا شعار «القصاص أو الفوضى»، كما قاموا بتجربة عملية احتشدوا خلالها أمام مقر البورصة المصرية بوسط القاهرة، وقاموا بتعطيل حركة مترو الأنفاق الذي يساهم في نقل ما بين 2 الى 3 ملايين مصري يومياً، الى جانب قطعهم «كوبري أكتوبر» الذي يربط محافظتي القاهرة والجيزة، ليقع النظام المصري بين مطرقة الألتراس وسندان الشعب البورسعيدي.
إذاً، اختار النظام أن يسلك نهج سلفه، واختار التضحية بالشعب البورسعيدي من خلال قرار جنايات بورسعيد إحالة أوراق 21 مدنياً من إجمالي 75 متهماً على المفتي. مع أن قرار المحكمة لا يعني بالضرورة إعدام أيّ من المتهمين في القضية، وخصوصاً أنّ رأي المفتي استشاري، حسب ما أكد المستشار زكريا شلش رئيس محكمة جنايات الجيزة لـ«الأخبار». وأضاف شلش أن «حكم الإعدام لا يصدر إلا بإجماع آراء المحكمة، والإحالة على المفتب قبل الحكم وجوبية، أما رأي المفتي فهو استشاري». وأشار الى «آخر تقرير صادر عن دار الإفتاء عن عدد قضايا الإعدام التي أحيلت على المفتي كان خلال 2012، ومن أصل 204 قضايا، وافق المفتي على 192 ورفض 9 وفوّض الأمر إلى المحكمة في 3 قضايا».
ورغم أنّ قرار المحكمة يحمل تهدئة ضمنية لألتراس النادي الأهلي على مستوى محافظات مصر جميعاً، لكن ألتراس النادي المصري البورسعيدي «جرين إيجلز»، أكد على صفحته على موقع «فايسبوك» أن «النظام الإخواني قرر أن يُشعل محافظة واحدة بدلاً من إشعال 26 محافظة»، مضيفاً أن «بورسعيد تدفع ثمن نجاة مصر من أحداث عنف محقّقة في باقي أنحاء الجمهورية».
ورأى مراقبون لـ«الأخبار» أنّ النظام الحالي ضحّى بالمتهمين الـ21، ومهّد لإعدامهم بحجة أنّهم «مسجلون خطر»، وفي الوقت نفسه تعمّد حماية رجال الداخلية المتورطين في الحادث، إذ لم يتطرق القرار الى قيادات وزارة الداخلية التسع في محافظة بورسعيد المقبوض عليهم ضمن المتهمين في القضية، واكتفى بالقول إن المحكمة ستصدر حكمها في حق جميع المتهمين في جلسة 9 آذار المقبل، من دون أن يذكر ما المصير الذي سيلقاه كل من مدير أمن بورسعيد السابق، ومدير الإدارة العامة للأمن المركزي في منطقة القناة وسيناء، ونائب مدير الأمن، ومدير المباحث، ومفتش الأمن العام، ومدير إدارة الأمن الوطني في بورسعيد. وإذا كان مصير المشجعين الإعدام، فما مصير الذي لم يقم بعمله لمنع حدوث المجزرة.
النيابة العامة، رغم وجوبيّة حيادها، لم تستطع أن تنكر الدور الذي أداه خلال الأيام الماضية النائب العام، المستشار طلعت عبد الله، لمنع صدور حكم لا يخدم أهداف النظام. وأكد المتحدث باسم النائب العام، المستشار حسن ياسين، أن «الحكم مرض تماماً للنيابة العامة، وأنه ستتم إحالة المتهمين الجدد الذين كشفت عنهم تحقيقات نيابة الثورة على المحاكمة في قضية منفصلة، غير التي صدر فيها الحكم، وذلك بعد أن تنتهي التحقيقات معهم»، رغم أن المستشار نفسه خرج قبل ثلاثة أيام من صدور الحكم ليبرر المذكرة التي أرسلها النائب العام الى محكمة جنايات بورسعيد يطالبها فيها بضرورة فتح باب المرافعة في القضية وعدم إصدار الحكم في جلسة أول من أمس لظهور أدلة ووقائع جديدة تستدعي إعادة التحقيقات برمّتها من جديد.
وقال المحامي محسن بهنسي، أحد المشاركين في إعداد تقرير لجنة تقصّي الحقائق، لـ«الأخبار»، إنه «لا يعرف لماذا طالب النائب قبل أيام المحكمة بتأجيل إصدار حكمها في القضية»، مضيفاً أن «تقرير تقصّي الحقائق تضمّن بالفعل معلومات ووقائع تشير الى متهمين جدد في القضية، ولكن تلك المعلومات لا تنفي جدية الوقائع المعروضة على المحكمة، والتي بحثتها خلال 57 جلسة على مدار 11 شهراً». وبحسب بهنسي، فإن «القانون يلزم النيابة العامة بالطعن في أحكام الإعدام أمام محكمة النقض، لبحث سلامة تطبيق القانون بسبب خطورة أحكام الإعدام، وأنه حتى لو لم يطعن المحكوم عليهم بالإعدام في الحكم، فإن محكمة النقض ستنظر في هذه القضية بعد أن تعرضها النيابة العامة عليها، وستعيد محاكمة المتهمين من جديد».