نيويورك | عاد الموفد العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي إلى نيويورك، قبل أسبوع تقريباً، بسلّة خاوية بعد أسابيع من التجوال بين الغرب والشرق. إنه يدرك أنّ الأمور ليست في يد المعارضة السورية لكي تتخذ قراراً، كما أنّ الحكم السوري لن يقبل بالتخلي عن دوره لمعارضة عاجزة عن قيادة نفسها أو الاستقلال بقرارها. يدرك أنّ الرهان بات على ما يجري على الأرض، سواء على خطوط التماس الثابتة أو المتحركة، وعلى من يرسل المال والسلاح والرجال والعقائد. فشل الإبراهيمي في الاستفادة من التقارب المحدود بين روسيا وأميركا، وهو لم يستطع تقديم حلّ سحري. في مثل هذه الحالة، يبوء كلّ تحرك بالفشل، ويكون الحل في عدم التحرك وانتظار نتائج حركة المحيط. لذا تجده يتشاور في اجتماعات مع أعضاء مجلس الأمن ومع سفراء الدول العربية ومع «مخططين استراتيجيين». من هؤلاء من سبقوه في الفشل مثل كوفي أنان، سلفه في المهمة، ورئيس المعهد الدولي للسلام تيري رود لارسن. الاجتماعات تتمّ مع الفرنسيين، وتحت مظلتهم، برعاية مندوبهم جيرار آرو، يحضرها مندوب مصر لدى الأمم المتحدة معتز خليل، ومندوب السعودية عبدالله المعلمي. وفي المقابل، عقد اجتماعات مع مندوب روسيا فيتالي تشوركين، ومع مندوب الصين لي باو دونغ. كذلك يتواصل الإبراهيمي مع أعضاء مجلس الأمن الدولي، لا سيّما الدول الدائمة العضوية، ومع رئيس المجلس، ومندوب باكستان، مسعود خان، ومع مندوب المغرب محمد لوليشكي. لكن الأمور والمباحثات جميعها تدور في دائرة مفرغة. الجانب الغربي _ العربي ينتظر أن يأتيه بخبر القبول بمضمون وثيقة جنيف لجهة المرحلة الانتقالية، بتفسير يعني تنحّي الرئيس السوري. الطرف الروسي يعارض ذلك بشدة، ويرى أنّ الدولة السورية كالعقد «إذا سقطت منه درّة تبعتها بقية الدرر». وعندما يطرح الإبراهيمي (ضمن فكرة شق صخرة التصلب الروسي) تحويل وثيقة جنيف إلى قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع، يرفض الروس ذلك، باعتبار أن أيّ شيء يبدأ «بقبلة» ولا أحد يعرف كيف ينتهي. هم يريدون خريطة طريق واضحة مفصّلة، تظهر فيها نقطة الانطلاق ونقطة الوصول والمحطات التي يتوقف قطار الحل فيها. ويريدون صياغة قانونية لا تقبل التأويل أو الإبهام، ولا التسويف. فالتوازن على الأرض ما زال، حتى بحسب رأي كوفي أنان، راجحاً لكفة الدولة السورية ورئيسها. والأميركيون يريدون حلاً بعد المصائب التي تعرضوا لها في بنغازي، ويتعرضون لها في مالي والجزائر والتي تمتد إلى نيجيريا. ويشعرون بأنّ لعبة تصدير الإرهاب سيف ذو حدّين، وأنّ رقابهم ليست بعيدة عنه.
الروس حدّدوا البداية بوقف العنف بكافة أشكاله. وهو سقف عال لا يستطيع أحد الادّعاء أن لديه النفوذ والسطوة بحيث يستطيع تلبيته. ووقف العنف قبل إطاحة النظام يعني بالنسبة إلى «تحالف الراغبين» تكبّد خسائر فوق خسائر سابقة. المطلوب بالنسبة إليهم نقل سوريا من معسكر إلى آخر كما نقلت ليبيا، وإلا فلا تكون لخصومهم إن لم تكن لهم. وفي المقابل يخشى الجانب الغربي من تدهور الأمور بعكس ما يشتهون، مع وجود قوى صلبة في المنطقة قادرة على الاستفادة من أخطائهم. يخشون من أنه إذا لم تستطع الدول الغربية التحكم في حركة القوى «العمياء» في ليبيا، فكيف تستطيع التحكم فيها في سوريا؟
الممثل الدولي يقبل فكرة وقف العنف، لكنه يقول إنّه يجب أن يتحقق بإرسال قوات حفظ سلام إلى سوريا، وليس إرسال مراقبين. وهذا يعني ضرورة إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السابع يمنح الأمم المتحدة وصاية على سوريا كما فعلوا في العراق وليبيا وأفغانستان والسودان وغيرها من الدول. كذلك يصعب تصوّر دخول قوات أجنبية، إقليمية كانت أو دولية، إلى دولة بحجم سوريا تعجّ بالمسلحين. ومن غير الوارد أن تقبل سوريا بوصاية من هذا النوع، مع أنها تقبل عودة المراقبين، عرباً كانوا أو أجانب، وكذلك هو موقف روسيا.
إزاء هذا الطريق المسدود، يدفع خصوم الأسد نحو قبول مجلس الأمن فكرة التحاور مع الائتلاف السوري. في المقابل، ترى موسكو في ذلك نوعاً من الاعتراف غير الرسمي بالائتلاف، كممثل شرعي قد يتحول إلى قيام سلطة الرأسين.
لجأت القوى الدولية الداعمة للمعارضة السورية إلى الكثير من أساليب الابتزاز من أجل الحصول على تنازلات ترجّح كفّتها في الصراع المستعصي. نصبت فخاخاً تستطيع فيها انتزاع تنازلات. بدأوا عبر فخّ الأسلحة الكيميائية التي روّج لها طويلاً، وردّت دمشق وموسكو بأنّ هذه الأسلحة، إن وجدت، مؤمنة. وأكدوا عدم استخدامها في أي ظرف.
وكان مخيّم اليرموك في دمشق الفخ الثاني، وأريد به دق إسفين بين سوريا والفلسطينيين، لكن الهجوم على المخيّم تحوّل إلى عنصر ضاغط على القوى المسلحة أكثر منه على القوى الحكومية، بعد ظهور مسألة اللاجئين الفلسطينيين.
الفخ الثالث كان طرح الحوار ورفض المعارضة له في وقت قبلته السلطة. وأريد لقضية النازحين أن تتحول إلى عنصر ضاغط على دمشق، فإذا بها تتحول إلى عنصر ضاغط، وقد تكون صاعقاً مفجراً على الدول المحرّضة والمضيفة.
جميع الفخاخ باءت بالفشل. وباتت قصة هذه الدول، على رأسها قطر والسعودية، شبيهة بقصة الشقيق الذي حرّض الأخت على التمرّد مع أولادها على زوجها. شعرت أنها «مسنودة» فانتهى المطاف بعائلتها في بيت زوجة خال لا تطيق رؤيتهم جميعاً. والسوريون بكافة أطيافهم يشعرون بمرارة وهم يشاهدون رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يتلذذ برؤية سكان المخيمات التركية يقبّلون يديه في ابتسامة تكشف قلة شعور وشماتة لا تليق برئيس يدّعي الدفاع عن المسلمين. بسبب هذه المآزق كلّها، كان اختيار عقد جلسة الإبراهيمي مساء الثلاثاء المقبل. بعدها سيتّجه الدبلوماسي الجزائري إلى حفل عشاء على مائدة الدول الخمس الدائمة العضوية. فهل يستقيل الإبراهيمي أو يهدد بالاستقالة بسبب مأزق مهمته ومأزقه؟
الأرجح أنّه لن يقوم بهذه ولا بذاك. فالإبراهيمي يستطيع انتظار أن تنضج الظروف ويطلب منه أحد الطرفين مخرجاً من المأزق تحت ضغط الأعداد المتزايدة من النازحين.