الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان يعيشُ أسوأ أيّامه منذُ تفجّر المسألة السوريّة. فَرملةُ التطوّرات المتسارعة منذ فتح الجيش السوري معارك ريف حلب الشمالي تبدو أصعبَ من أن يقدرَ عليها زعيمُ «العدالة والتنمية». انتكاساتُ حلفائه المسلحين تتتالى على الأرض، الجيش وحلفاؤه مستمرّون في الإمساك بزمام الميدان في «عاصمة الشمال» ريفاً ومدينة، ألدّ أعدائه (الأكراد) باتوا على أبواب أعزاز تحتَ مظلّة «قوّات سوريا الديموقراطيّة». الحلفاء الدوليّون «يتقاعسون» عن تقديم الغطاء اللازم للمشروع الإردوغاني. «ألسنا حلفاء ونتحرّك معاً؟» قال إردوغان أمس بلهجة تشي بالـ«ألم» والعتاب، مخاطباً الإدارة الأميركيّة التي «لم توافق على إقامة منطقة حظر طيران فوق سوريا». ومن جديدٍ، دعا إردوغان الولايات المتّحدة إلى «أن تقرر ما إذا كانت تريد مساندة تركيا، أو المقاتلين الأكراد». أمّا حديث «المنطقة الآمنة» فكان أمس حاضراً في التصريحات التركية، ولكن على لسان نائب رئيس الوزراء يالجين أكدوغان. ستّة أشهر هي المسافة الزمنيّة بين تمّوز الماضي وأمس، تقلّصت خلالها طموحات «المنطقة الآمنة» العتيدة إلى عشرة كيلومترات فحسب. «ما نريده هو إقامة شريط أمني يشمل أعزاز بعمق عشرة كيلومترات داخل سوريا»، قال أكدوغان في مقابلة مع قناة «خبر» التلفزيونيّة، مضيفاً «هذه المنطقة يجب أن تكون خالية من الاشتباكات». ويبدو الانحسارُ الكبير في رقعة المنطقة الموعودة واحداً من أوضح المؤشرات على اختلاف الموازين الميدانية في الشمال. فقبل حوالى أربعة أشهر، كان إردوغان نفسه يؤكّد عزم بلاده على إنشاء «منطقة آمنة تمتد من جرابلس إلى البحر المتوسط». أمّا في مطلع آب الماضي، فكان الحديث يدور عن «منطقة تضمن أكبر قدرٍ من الأمن والاستقرار على طول الحدود التركية مع سوريا»، وكان رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو يؤكّد أنّ «قواتنا البرية في سوريا هي الفصائل التي نتعاون معها» (راجع «الأخبار»، العدد 2651). كان من المفترض بهذه «القوّات» أن تنتشر في المنطقة الموعودة وتضمن «أمن وسلامة الحدود التركيّة»، قبلَ أن تُظهر التطوّرات عجزَها عن الحفاظ على معاقلها في الريف الشمالي لحلب. وضمن هذا السياق، أوحى إردوغان أمس بأنّ مهمّة الحشود العسكريّة التركيّة على الحدود تأتي بمثابة تحضير «خط دفاعي» بعدما بات سقوط «الخط» الأوّل (المجموعات المسلّحة داخل سوريا) أمراً شبهَ محسوم. «موقف تركيا حيال سوريا هو دفاع عن النفس، لذلك فكل خطوة اتخذناها مشروعة»، قال إردوغان من دون أن يوضحَ ما إذا كان تسهيل تصدير تنظيم «داعش» للنفط السوري المسروق («الأخبار»، العدد 2769)، وتسهيل «استيراده» المقاتلين المتطرّفين الأجانب، أو احتضان أنقرة بشكل كلّي لـ«الحزب الإسلامي التركستاني» («الأخبار»، العدد 2593)، وتسيير أعمال «جبهة النصرة» هي بعض من تلك «الخطوات المشروعة»، رغمَ أنّ جميع التنظيمات المذكورة موصومةٌ بالإرهاب بموجب قراراتٍ دولية لا لبسَ فيها. ويكاد خطاب الرئيس التركي يوحي بأنّ «مخاطر» الملف السوري اختُصرَت لدى أنقرة بالاختراقات المتتالية التي يُحقّقها الأكراد: ميدانيّاً، عبر إلحاق الهزائم بالمجموعات المسلّحة المدعومة تركيّاً، وسياسيّاً عبر نجاحهم في التنسيق مع أكبر قوّتين في العالم (الولايات المتحدة، وروسيا) واللتين يُفترض أنّهما تقفان على طرَفي نقيض في الشأن السوري. إزاء ذلك، أكّد إردوغان أنّ بلاده «لن توقفَ قصفَ مواقع القوّات الكرديّة في سوريا»، ولن تسمحَ بـ«وجود قنديل جديدة على حدودها الجنوبيّة» (في إشارة إلى جبال قنديل في شمال العراق، أحد أبرز معاقل حزب العمال الكردستاني).

الميدان

وبينما كان التلفزيون التركي ينقل خطاب إردوغان، كانت الأنباء الواردة من مدينة حلب تتحدّث عن تقدّم القوّات الكرديّة على أطراف حي بني زيد الشهير، أحد أبرز الأحياء الواقعة تحت سيطرة المجموعات المسلحة. كما تضع نُصب عينيها التقدّم نحو حيّي الهلُّك وبستان الباشا. ومن شأن هذا التطور أن يضعَ الأحياء الشرقيّة في مدينة حلب أمام سيناريو مختلف عن سيناريو «الحصار» الذي كانت حظوظُه هي الأوفر حتى وقت قريب. وليسَ من المعلوم بعد ما إذا كانت القوات الكرديّة عازمة على المضيّ في محاولات التقدّم داخل تلك الأحياء، لكنّ هذا الأمر في حال حدوثه سيضعُ المجموعات المسلّحة في المدينة أمام كابوس تكرار سيناريو الريف الشمالي. وكما تبادلَ الجيش السوري وحلفاؤه من جهة، و«قوات سوريا الديموقراطية» من جهة أخرى اكتساحَ مناطق المجموعات شمالاً، فإنّ طريقة توزّع السيطرة في مدينة حلب تجعلُ العزفَ على النغمة ذاتها أمراً ممكناً. وبإمكان الجيش والقوّات الرديفة أن تفتحَ جبهاتٍ عدّة داخل المدينة عبر محاور: صلاح الدين، الأنصاري، بستان القصر والمدينة القديمة. فيما بإمكان القوات الكرديّة أن تواصلَ نحوَ أحياء أخرى مثل: الشيخ فارس، الحيدريّة والصّاخور. وهو أمرٌ سيؤدي بطبيعة الحال إلى إضعاف قدرة المجموعات على صدّ الهجمات بسبب تكتيك «تشتيت الجبهات» المذكور، مُعزّزاً بالغطاء الجوي الكثيف الذي توفّره الطائرات الروسيّة، وبـ«الطوق» شبه المكتمل الذي يحرم المجموعات من تلقّي أيّ إمدادات. أمّا في الريف الشمالي، فلا تبدو الحال قابلة للتغيّر الجذري، رغم نجاح المجموعات في إيقاف زحف «قوات سوريا الديموقراطية» قرب صوامع كلجبرين أمس. وتحظى البلدة بأهمية استراتيجية تنبعُ من توسطها المسافةَ بين مدن المثلث الشهير: مارع، تل رفعت وأعزاز. ومن شأن خروجها عن سيطرة المجموعات المسلّحة أن يؤدي إلى خنق مارع، وحرمانها من مُتنفّس مارع بعدما خسرت تل رفعت سابقاً. وتزامن التقدّم النسبي الذي أحرزته المجموعات المسلحة في كلجبرين مع تأكيد «الجبهة الشامية» عزمها على «القتال وعدم تسليم مدينة مارع لأي طرفٍ كان». ونفت مصادر «الشامية» إبرام «أي اتفاق لتسليم المدينة دونَ قتال»، كما تعهّدت بـ«قتال مرتزقة وميليشيات وحدات حماية الشعب وجيش الثوار التابع لها، حتى آخر رجل».