الجزائر | صباح الحادي عشر من كانون الثاني 1992، صعدت كوكبة من كبار ضباط الجيش الجزائري الى مكتب الرئيس الشاذلي بن جديد، من دون سابق إنذار ولا موعد، وعرضوا عليه مخرجاً من أزمة سحبت البلاد بسرعة الى وضع حرج للغاية.
مجموعة الضباط جلست الى الرئيس وسلّمته عريضة موقّعة من أهم القيادات العسكرية العليا والوسطى تدعوه إلى الاستقالة كإجراء ضروري لتنفيذ خطة إنقاذ البلد من الانفجار. وأعلمته بأن القوات المسلحة قررت إلغاء النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ووقف المسار الانتخابي الى أجل غير مسمى. إلا أن أول رد فعل من الرئيس كان العائق الدستوري، فقد قال لمحدثيه «خطتكم ستُسقِط البلد في فراغ دستوري غير مسبوق. الدستور لا ينص في أي من مواده على استقالة الرئيس». ورد عليه ضابط من المجموعة «نعلم أن الدستور ينص على وفاة الرئيس». فهم الرجل بفطنته العسكرية أن قيادة الجيش تحصل على بديل في حال رفضه الاستقالة وهو إعلان الوفاة. فقبِل العرض مكرهاً.
وظهر بن جديد على شاشة التلفزيون كئيباً حزيناً يقرأ سطوراً من نص الاستقالة، أشار فيها الى أنه لا يستطيع البقاء في المنصب. وبدا كما لو أنه تعب وخرج طوعاً. وفاجأ قرار الرئيس الجميع، كونه أعلن قبل أسابيع أمام حشد من الصحافيين الجزائريين والأجانب أنه يقبل نتيجة الانتخاب مهما كانت، وأنه مستعد للبقاء رئيساً متعايشاً مع برلمان بغالبية من الإسلاميين، في محاولة لاستنساخ تعايش الرئيس الاشتراكي الفرنسي، فرانسوا ميتران، مع الغالبية اليمينية. وقال أمام الملأ إن «الجميع جزائريون ويخدمون الجزائر كل من وجهة نظره، لكن في النهاية تعاوننا هو من يدفع البلد الى الديموقراطية والازدهار».
لكن كلام الرئيس لم يبعد نذر الحرب. فجبهة الإنقاذ ملأت جدران المدن بكتابات تهديدية من أمثال «الانفراج او الانفجار». وهي تشير الى الإفراج عن قيادتها التي اعتُقِلت على أثر عصيان مدني منظّم صيف 1991، أو بداية الحرب.
وبدأت الحرب حين اقتحم مسلحون بقيادة رئيس بلدية من «الإنقاذ» مركزاً أمنياً قرب الحدود مع تونس فقتلوا الحرس واستولوا على السلاح، ثم نفّذوا عمليات أخرى استهدفت أعوان الشرطة والدرك، في عملية ترمي إلى إحداث هلع عام يدفع الجزائريين إلى الثورة ضد النظام، كون اعتقال «الشيوخ»، وخصوصاً عباسي مدني وعلي بلحاج، كان سبب الاضطراب المسلح.
وكانت أيام التحضير للانتخابات عصيبة ومتوترة، ومعظم الناس يتوقعون في كل لحظة اندلاع الصدام بين إسلاميين متعطشين للحكم تستهويهم طروحات «مجربين» عادوا من الحرب الأفغانية، ونظام لا يمكن أن يتنازل عن نمط حكم بناه منذ عقود.
وازداد الاقتناع بأن من المستحيل التعايش السياسي مع هؤلاء الإسلاميين بعدما صاروا يملكون جناحاً مسلحاً مغامراً هاجم مراكز رسمية وقتل رجال الأمن. فهم في نظر الجيش مجموعات خارج القانون. وكتب اللواء محمد تواتي، أحد صقور النظام وقتها، في صحيفة يومية «إن الديموقراطية ليست بالسذاجة التي تسمح ببقائهم، والمجتمع لن يكون مغفّلاً الى الأبد لنصرتهم».
وزاد إعلان فوز «الإنقاذ» الكبير في الدور الأول، الذي أجري يوم 26 كانون الأول 1991، بمجموع 182 مقعداً، مقابل 26 للاشتراكيين و15 لجبهة التحرير الوطني، هذا التوتر اشتعالاً فانطلقت مسيرات، أهمها مسيرة «جبهة القوى الاشتراكية» التي ضمت أكثر من نصف مليون مشارك، وعُقِدت ندوات وتجمعات أعربت عن استعداد «عنيف» لمواجهة «العنف المنتظر» من الإسلاميين الفائزين.
وكانت خطب الجمعة وحلقات التكوين في المساجد تعطي الانطباع بأن النظام المقبل سيعيد قولبة تفكير الجزائريين ويغيّر نمط عيشهم رأساً على عقب. وطالت التهديدات الصحافة والأحزاب غير الإسلامية جميعاً.
والتقت مئات من الإطارات ورجال العلم والثقافة والفن والإعلام والنقابيين وأعلنوا تشكيل «لجنة إنقاذ الجزائر». وطالبوا الجيش بشكل مباشر، كونه المؤسسة الوحيدة الواقفة أمام ركام تهاوي باقي المؤسسات، بالتدخل ومنع انزلاق البلد الى «حكم إسلامي هدام».
قبلها، كان مؤسس جبهة القوى الاشتراكية وزعيمها حسين آيت أحمد، وهو من أهم الزعماء التاريخيين في الجزائر، قد حذّر من حتمية السقوط في الاختيار بين خطرين: خطر الدولة البوليسية القائمة وخطر الدولة الأصولية التي ظهرت من قمقمها وسط التمزق الاجتماعي وانتشار الفقر و«الغباء السياسي».
ونشرت الصحافة مقاطع من دراسات لاختصاصيين أمنيين وسياسيين تفيد بأن الانتخابات في الجزائر بتلك الظروف لن تكون أبداً عرساً ديموقراطياً، ولن تفرز قيادة للبناء، بل تُمهّد لحرب حتمية. فالإسلاميون سيفوزون، وفوزهم يحمل الحرب في كل الحالات، إذا تسلّموا الحكم فسيقتتلون في ما بينهم كون الاحتكام الى القوة هو عقيدتهم في التعامل، وإذا اختلف عباسي مدني وعلي بلحاج وغيرهما من القادة فسيشعلون فتيل الحرب بينهم. فافتقارهم إلى القدرة على الإقناع والاقتناع يدفعهم الى الاقتتال وحسم الأمور بالمدفع، وهو ما حدث في أفغانستان وكل المناطق التي اقتربوا فيها من سدة الحكم. وإن منعتهم السلطة القائمة بشكل أو بآخر من بلوغ الحكم، كانت الحرب بينهم وبين الدولة القائمة.
شريط الأحداث كان ماثلاً أمام الضباط الذين جرّدوا الشاذلي من الرئاسة، فاختاروا أن تكون المواجهة بين الإسلاميين والدولة كونها الطريقة الوحيدة التي يمكن التحكم فيها مع ثقل ضحاياها. فالاختيار الثاني أي حكم الإسلاميين سيكون زر العمليات فيه بأيدٍ أخرى خارج التحكم.
وبالفعل، كانت الحصيلة ثقيلة جداً، 200 ألف قتيل، حسب تصريح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في أكثر من مرة، ودمار الاقتصاد والسلوك العام.
فالجريمة في الجزائر هذه السنوات صارت أخطر ما يهدد البلد بعد اختفاء النشاط الإرهابي بشكل شبه كامل.
والفساد في مؤسسات الدولة والمجتمع صار فعلاً عادياً ترسخ زمن الاقتتال الأهلي، والبغضاء والضغينة وكره الآخر، كلها حالات سلوكية زرعتها سنوات الجمر. يبقى السؤال الذي لم يجب عنه أحد: كم هو الزمن الذي تحتاج إليه الجزائر للتعافي من هذه الحالة بعد سكوت صوت الرصاص؟