لم يكن أحد من التونسيين، حتى تاريخ ١٤ كانون الثاني ٢٠١١، يتصور انه سيأتي يوم يناقشون فيه مبدأ الاختلاط بين الجنسين أو يحرق أحدهم مقامات الأولياء الصالحين الذين ينظر اليهم التونسيون، المتمسكون بالمذهب المالكي، بتقدير وإجلال. لكن هذا ما يحدث في تونس اليوم بعد صعود حركة النهضة الى الحكم. وهو ما أشعر السلفيين المناصرين للوهابية بأنهم فوق المساءلة القانونية. فقد تم حرق مقام «سيدي أبو سعيد الباجي» في الضاحية السياحية الشهيرة التي سميت باسمه منذ القرن الثامن عشر.
ووجّهت أصابع الاتهام الى السلفيين، الذين أحرقوا مجموعة من المقامات في اكثر من جهة من الشمال الى الجنوب، لعل أشهرها مقام السيدة المنوبية في ضاحية منوبة وسيدي عبدالعزيز في ضاحية المرسى وسيدي الحشاني في مدينة منزل عبدالرحمان من محافظة بنزرت (شمال) وسيدي يعقوب في مدينة قابس (جنوب) وفي مدن أخرى.
والباجي له حظوة خاصة لدى التونسيين الذين دونوا اسمه في القصائد والأغاني وهو الشهير بلقب «رايس البحار»، كما يتغنى به المطربون «وصاحب القبة العالية» في أغان أخرى.
ولد ابو سعيد بن خلف التميمي الباجي سنة ١١٥٦ وتوفي سنة ١٢٣١ هجرية، وكان متصوفاً دافع عن الاسلام ضد الحملات الإسبانية ووهب نفسه للتأمل والصلاة والتدريس. دفن في القرية التي تسمت باسمه. وقد أقيمت الزاوية، التي تم إحراقها بزجاجات «المولوتوف» في القرن الثامن عشر، في عهد محمود باي الحسيني، حاكم البلاد آنذاك، الذي أقام بيتاً بالقرب من زاوية ومسجد سيدي أبي سعيد. ومنذ ذلك الوقت بادرت كبرى العائلات التونسية من سكان مدينة تونس الى بناء منازل حول الزاوية والمسجد لتتشكل قرية سيدي أبي سعيد، التي تعد اشهر مكان سياحي في تونس منذ سنوات. واشتهرت القرية بتعدد زوايا الأولياء، إذ تعد نحو ٥٠٠ ولي من بينهم ابنة أبي سعيد للا شريفة، وسيدي الظريف وسيدي الشبعان وسيدي بوفارس، وغيرهم.
ويحتفل التونسيون في أول شهر حزيران بـ«خرجة سيدي بوسعيد». وهي تظاهرة موسيقية صوفية تُرفع فيها أعلام الفرقة العيساوية (مذهب صوفي منتشر في المغرب العربي وخاصة بين تونس وليبيا) والأهازيج التي تتغنى بأبي سعيد، ويتابعها جمهور كبير من التونسيين والسياح الذين تغص بهم أزقة القرية التي تطل على البحر المتوسط والشهيرة بألوانها البيضاء والزرقاء، وقد كانت موضوعاً لعشرات الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية في العالم وتُعدّ أحد عناوين تونس البارزة.
وفي أول رد فعل على هذه الجريمة البشعة ضد المعمار والتراث الروحي، والتي تضاف إلى عشرات الجرائم المشابهة، اتّهم رئيس بلدية سيدي بوسعيد، عبد الرؤوف الدخلاوي، السلفيين ومن ورائهم حركة النهضة بارتكاب هذه الجريمة. وقال في تصريح إذاعي، «إن النهضة تحمي السلفيين وان زعيمها راشد الغنوشي سبق له أن قال إن السلفيين يذكرونه بشبابه، وان «لهم ثقافة» من حقهم ان يدافعوا عنها». واعتبر رئيس البلدية ان الحرق هو الثقافة الوحيدة لهؤلاء.
وبعد حرق المقام، الذي أُتلِفت محتوياته من مصاحف قرآن وزرابي وأواني عطر وشمعدانات تعود الى قرنين، تجمع مواطنون رافعين شعارات منددة بالحكومة وحركة النهضة والسلفيين. وتكرر نفس المشهد يوم أمس الأحد.
من جهة أخرى، طالب رئيس جمعية الوسطية للتوعية والإصلاح، عادل العلمي، أنصاره من السلفيين بالتظاهر اليوم ١٤ كانون الثاني، في ذكرى الثورة للمطالبة بالتنصيص في الدستور على مبدأ الفصل بين الجنسين في المؤسسات التعليمية ووسائل النقل ومختلف المؤسسات الإدارية العامة والخاصة. واعتبر العلمي ان هذا المطلب من جوهر الإسلام وهو من مطالب الثورة. كذلك نادى بفرض تعدد الزوجات واعتبره مطلباً شعبياً.
وتأتي هذه الدعوى لإضفاء الصبغة الرسمية على ظاهرة أصبحت بارزة في بعض الإدارات التونسية؛ وهي طوابير النساء وطوابير الرجال بعد نصف قرن من ولادة مشروع التحديث على النمط الأوروبي الذي قاده زعيم الاستقلال والدولة الحبيب بورقيبة، أول رئيس للجمهورية التونسية (25 تموز 1957 - 7 تشرين الثاني 1987). فالسلفيون و«النهضة» يستهدفون مشروعه ويعتبرونه مشروعاً تغريبياً لا بد من معاداته وتصفيته، وذلك بعد عامين من الثورة حيث تنزلق تونس نحو هوة عميقة في مشروعها الاجتماعي والإصلاحي التحديثي.