غزة | الذاكرة لعنة دافئة. حينما أتذكر درج البيت الذي ناورت وإيَّاه انتظار أبي وهو عائد من إسرائيل (أقصد بلادي البعيدة المحتلة، وتحديداً إسدود!) حتى يُعطيني مصروفي فأشتري به هدية لعيد أمي، ضحك وأعطاني قطعة «خمسة شيكل»، ركضت للمحالّ القريبة، كانت الهدايا غالية، وحده الكاسيت كان شراؤه ممكناً، أخذته وطرتُ به. جئت بالمسجل وفتحت الكاسيت الذي كان لفايزة أحمد «ست الحبايب»، وقلت لأمي هذه هديتي. أبي سرحَ وبكى. لطالما تساءلتُ عن سبب ذلك؟ اليوم كبرت وعرفت أنه كان اليُتم، وعرفتُ بالمصادفة كم أن معناه واسع وكبير وحنون كحُضنِ جدّة لا تُجيد التعبير عن مشاعرها إلا بالصراخ عليك، حين تنسى أن تُسلِّم عليها كلما مررت بجانبها. أبي الذي لم يعرف معنى كلمة «بابا» في حياته، ولم يُجرّب ولو لمرةٍ قولها إلا ليُجيب مُدرِّسيه عن «شو بيشتغل أبوك؟»، فكان يقول «أبي بيشتغل شهيد». هذا الأب اليتيم أخبرني أنه كان يُردّد هذه الكلمة بينه وبين نفسه قبل النوم، يسمعها بإعجاب، ليحلم بأنه جاءه في الصباح، تاركاً له قُبلة وهدية، ومصروفه اليومي، مثلما أخبرته أمه أنه يفعل.
جدتي التي عملت ليل نهار لتتناسى جدي الذي مات مُبكِّراً تاركاً لها أحلامهما وثلاثة أطفال، أصغرهم كان أبي، بعمر ستة أشهر. جدتي أيضاً، لطالما تمنّت الحج طوال حياتها، حلمت بالموت شهيدة مثل جدي، فكان لها أن ذهبت إلى مكة ولفظت آخر أنفاسها عند العودة، فقالوا عنها إن الموت على طريق الحج شهادة.
كبر أبي، وما زلتُ أرى اليُتم في عينيه. كلما ناداه أحد منّا أنا وإخوتي، سكت طويلاً قبل أن يُجيب. أتخيل في صمته مسرحية يركض فيها يهود بين البيوت، يُخرجون رجال الحيّ، ويصفّونهم على الحائط بالعشرات، ثم يُجرِّبون حظ كل واحد منهم من طلقات الرصاص، ربما مات جدي بثلاث طلقات، وربما بسبعين، أو بالآلاف. هه! إنهم لا يشترون الرصاص، والذي لا يتعب في شيء يُفنيه بإسراف، وخاصةً إذا كان في سبيل قتل فلسطيني!
كلمة فلسطيني بحدّ ذاتها تُرهبهم. لماذا، وقد ترك لهم أجدادنا البلاد ظناًَ منهم أنها لعبة تنتهي بعد شهر أو اثنين؟
نعم. لا تزال السذاجة في دمنا. نُصدِّق اليهود في كل شيء، ولا أحد سيُصدِّق حزن أبي! ولا حُزني الذي يُسبِّبه لي سكوته.
لم يقتل اليهود جدي وحكايات البلاد التي يحكيها الأجداد لأحفادهم فقط. لقد أخذوا كلام أبي وتركوا لي بحثي الطويل عن لغته بين صمتٍ وآخر! تركوا لي التخمين وفك الرموز ومُعايشة يُتم مستعار.
أحياناً أفكر: هل سيكره الآخرون اليهود لو كان أجدادهم أحياءً يُرزقون؟ ثم أجيب: تعددت الأسباب، ما أكثرها، والكُره واحد، كالموت والألم. فاقتلاع شجرة جدّ صديقتي، لا يزال حتى اليوم يوجع قلبه!
تُرى، أما زالت أُمي تذكر هديتي تلك قبل خمسة عشر عاماً؟ ربما. أمَّا أنا فبُكاء أبي اليتيم لا يزال محفوراً داخلي.