تدفع الظروف السيئة في قطاع غزة عددا من المواطنين إلى شراء تقارير طبية من أجل الهرب من القطاع. تلك العمليات «التجارية» تركت ضحايا هم بحاجة حقيقية وماسة إلى تلك التقارير في ظل صعوبة السفر. وتمر تجارة التقارير الطبية في غزة من بين عدة دوائر: الأولى في وزارة الصحة (دائرة العلاج في الخارج)، والثانية في وزارة الشؤون الاجتماعية، والثالثة في جامعات غزة، وأخيراً مؤسسات رعاية الجرحى، إلى جانب عدد من الأطباء الذين يبتزون المرضى حتى يدفعوا الأموال لقاء التقارير الطبية، برغم وجود رقابة من وزارة الصحة على غالبيتهم.
رائد صبح (37 عاماً) يقول إنه ضحية عملية ابتزاز من طبيب نفسي، وهو أب لثلاثة أطفال، ويعمل خياطاً كل ما سمحت له الظروف في مصنع للخياطة. كان يعاني حالة نفسية تتسبب في تشنجه فجأة، لذلك لا بد له من الحصول على مبلغ من الشؤون الاجتماعية بعد تقديمه تقريراً طبياً عن حالته، ولكنه لم يعلم أن الطبيب سيبتزه للحصول على مبلغ.
عرض الطبيب على رائد دفع 200 شيكل (60 دولارا)، كي يكتب له التقرير بسرعة بعدما ادعى وجود تعقيدات تؤخر كتابة التقرير، وكذلك وعده بمناقشة التقرير مع إدارة المستشفى. لم يكن رائد يملك المبلغ لصعوبة وضعه، وإضافة إلى حالة رائد ثمة خمس حالات واجهت معد التحقيق وتعرضت للابتزاز من ثلاثة أطباء داخل مستشفيات حكومية، وطبيبين في عيادات حكومية أخرى، وذلك برغم تشخيص حالاتهم واستحقاقهم التقارير.
يحاول مصابون في حوادث داخلية الحصول على تقرير «مصاب حرب»

في الجامعات ووزارة الشؤون الاجتماعية

الأمر لم يقف عند حد الابتزاز، فدور الوساطة التي صارت ثقافة داخلية لتسهيل الخدمات المقدمة من القطاع العام للمواطن بدت واضحة في واقع التقارير الطبية، التي بات يمكن منحها ليس للمريض أو مدعي المرض، بل الطالب الذي يتذرع بالمرض للتهرب من الاختبارات النصفية بالتحديد. يمكن للطالب أيضاً دفع رشوة للطبيب إن لم يكن على معرفة مسبقة به.
الطالبة حنين أبو ركبة كانت ترى ما يحدث أمامها من أساليب الطلاب بالتهرب من الامتحانات عبر الوساطة والرشوة. تقول: «الظاهرة منتشرة بين الطلاب. لاحظت زميلة لي كانت تُعدّ تقريراً جاهزاً عبر زوجها وهو صديق أحد الأطباء... الأهالي صاروا يساعدون في ذلك».
كذلك فإن موظفاً في دائرة شؤون الطلبة في إحدى الجامعات أكد أن عددا من المحاضرين بدأوا يلاحظون توافد الطلاب لتقديم طلبات احتساب الاختبار من مئة ومعهم تقارير طبية. وخلال المتابعة والتحقيق تبين أن هؤلاء يجلبون تقارير طبية مزيفة من عيادات خاصة للتهرب من الامتحانات.
من زاوية أخرى، تتزايد نسبة تجارة التقارير الطبية لدى وزارة الشؤون الاجتماعية التي تشرف في برامجها على الدعم المالي للعائلات الفقيرة التي تثبت بورقة رسمية عجز رب الأسرة عن العمل، ولكن بعض الأطباء، الذين تخلوا عن واجبات المهنة الأخلاقية، ينظرون إلى القضية على أنها فرصة مناسبة لكسب المال وكتابة تقرير طبي لبعض الأشخاص.
الطالبة أبو ركبة تحدثت لنا عن شخص ادعى أن زوجته مريضة وبحاجة إلى علاج غير قادر على توفير ثمنه، فلجأ إلى «الشؤون الاجتماعية» بعد رشوة أحد الأطباء، وأخذ تقارير بأن زوجته مريضة، لكن بعد حضور الباحث الاجتماعي الميداني التابع للوزارة، اتضح له أن الزوج المتقدم إلى «البرنامج الوطني الفلسطيني للحماية الاجتماعيّة» لم تكن معلوماته صحيحة، وأن الزوجة سليمة.
قصة أخرى عن إحدى العائلات في شمال القطاع من ثمانية أفراد. الأب يعمل في مهنة لا تكفيه مصاريف الأبناء. أحد الأطباء المقربين له عرض عليه طريقة مناسبة للخروج من الظروف الصعبة، ولكنه طلب منه أن يدفع له 500 شيكل (140 دولارا) ويذكر في التقرير أن الاستمرار في عمله يهدد العمود الفقري والفقرات أسفل الظهر، وبذلك يمكن للباحث زيارة منزله والنظر في واقعه الصعب، ثم تصرف له مساعدة كل ثلاثة شهور. وبالفعل استدان الرجل المبلغ ودفعه للطبيب، وهو الآن يتلقى على مدار عام دفعات مالية. لا ينكر الرجل الطريقة التي حصل فيها على المال، لكنه يبرر ذلك بظروفه الصعبة، مضيفا أن العديد من العائلات فعلوا الأمر نفسه.
ووفق استبانة وزعت على 80 طالبا تبين أن 50 طلبوا من أطباء تحرير تقارير طبية منهم 13 كانوا مرضى بالفعل والآخرون لظروف شخصية، ثم تبين أن 24 طالبا دفعوا لشراء تقارير طبية. كما تبين في عينة أخرى أن 46 مواطنا من أصل 60 على علم بأن عددا من العائلات شرت تقريرا طبيا لتقديمه إلى «الشؤون الاجتماعية»، فيما حصل عشرة منهم عليه بالوساطة.

جرحى من دون الحرب

بعد غزو تجارة التقارير الطبية المنظومة التعليمية والصحية والاجتماعية في غزة، وصلت إلى الجمعيات التي تعني بمساعدات للجرحى. تفيد مصادر من مستشفى الشفاء بأن أشخاصاً كانوا يحضرون إلى المستشفى خلال العدوان الأخير ويدعون أن إصاباتهم نتيجة قصف، لكن الأطباء اكتشفوا بعض الحالات الكاذبة، التي لجأ أصحابها لاحقاً إلى أطباء خارج المستشفى ومقابل مبلغ مالي حصلوا على تقرير إصابة في العدوان!
في السياق، لاحظ معد التحقيق أن عدداً كبيراً ممن ادعوا إصابتهم خلال القصف الإسرائيلي يتقاضون مبلغاً شهرياً من بعض المؤسسات (نقدا أو عبر حسابات بنوك)، وفي إحدى الجمعيات التي تعد من أكبر المؤسسات على مستوى فلسطين لرعاية الجرحى، كانت تعتمد إعطاء مبالغ شهرية بسرعة لمن يملك وساطة فيها أو له مقربون داخلها حتى لو لم يكن مصاباً، لأن من الممكن شراء تقرير برشوة طبيب، ثم يأتي دور الوساطة في تلك المؤسسة لإتمام باقي الإجراءات.
بعد محاولة الحصول على تصريح من هذه على مدار شهر، لم يحصل معد التحقيق على أي رد، لكنّ باحثا ميدانيا فيها، وهو يعمل فيها على مدار ستة أعوام، أكد أن نسبة كبيرة ممن تعرضوا لإصابة عادية خلال العدوان استغلوها بحكم معرفة داخل المؤسسة لإكمال ملفهم والموافقة على مساعدة مالية لهم. يضيف: «للأسف القائمون على المؤسسة يعملون بناء على مصالح شخصية أو حزبية. سبق أن طلبت جهات رقابية الكشف على تقاريرهم لكنهم تهربوا وادعوا أنهم مؤسسة تعنى بالجرحى ولا يجوز المساس بعملها».

دافع السفر أيضاً

في أيلول الماضي، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مديرة مكتبها في فلسطين، خلال لقائها مع مدير «دائرة العلاج في الخارج»، بسام البدري، أن نحو 10% من طلبات سكان غزة الحصول على تصاريح لدخول فلسطين أو الضفة المحتلة لتلقي العلاج الطبي، ليس لها حاجة طبية حقيقية، بناء على معلومات يملكها البدري. وأفادت الصحيفة بأن سكانا من القطاع يدفعون رشى لعدد من الأطباء حتى يصدروا لهم وثائق طبية غير صحيحة، أملا في أن تمكّنهم من المرور عبر معبر «بيت حانون ــ إيريز».
وظاهرة المحسوبية والرشوة من أجل السفر للعلاج في الخارج ليست جديدة (راجع العدد 2620 في 20 حزيران 2014)، بل تبين أن 40 حالة ما بين حزيران 2014 إلى حزيران 2015 وقعت في يد المباحث الطبية نتيجة تجارة التقارير الطبية والرشوة من أجل السفر وادعاء المرض، وأخرى لتقديمها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، لكنْ ثمة رقم جديد من حزيران الماضي، إلى كانون الأول، ينقله مسؤول «المباحث الطبية» التابعة لوزارة الداخلية، محمد المعصوابي، ألقي القبض على حالات ما بين عشرة إلى 15 من الأطباء، يشاركون في تجارة التقارير الطبية.
وتبين كذلك أن الأطباء في التقارير المزورة للحالات الاجتماعية يكون مبلغ الرشوة أقل من المخصصة للسفر. أما على صعيد التقارير المتعلقة بادعاء الإصابات في الحرب، فيقول المعصوابي: «الأصل أن الطبيب لا علاقة له بتسجيل الإصابات خلال العدوان، بل الكاتب الصحي هو المسؤول عن ذلك»، لكنه لا ينفي إمكانية حدوث ذلك وبعض الحالات جرى الشك فيها، وعملت عليها ثلاث لجان من وزارة الصحة، والنيابة العامة، والمباحث الطبية.

* أُنجز التحقيق بالتعاون مع «الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة ــ أمان»




تحسين في رقابة «الصحة» و«الشؤون الاجتماعية»

من أهم دوائر الرقابة في القطاع الصحي في غزة، هي دائرة «الإجازة والتراخيص»، التابعة لوزارة الصحة، وهي مختصة برقابة وبمحاسبة أي طبيب يخل بأخلاق المهنة. يقول مدير الدائرة، ماجد حمادة، إن الوزارة تستقبل الشكاوى من أي مواطن يجد إخلالاً بطابع الخدمات الطبية من الأطباء وغيرهم. وبعد انتشار التقارير غير الصحيحة، سارعت وزارة الشؤون الاجتماعية أيضا إلى محاولة ضبط القضية. ويوضح مسؤول دائرة الوسطى في الوزارة، طلعت أبو جامع، إنه سابقا كان عدد من الناس يتوجهون إلى الأطباء ويأخذون منهم تقارير طبية، مستدركا: «نعمل على البحث في هذه الأمور عن طريق المستشفيات عبر المراسلات ولا نزال نوجه إلى الأطباء ضرورة توخي الحذر من هذه الممارسات».