«جبهة النصرة» التي دأبت على إطلاق لقب «إخوة المازوت» على بعض مناوئيها تبدو الأجدر بهذا اللقب، في ظل افتعالها أزمات متتالية تطال مياه الشرب في حلب. المدينة المنكوبة وجدت نفسها من جديد مهددة بالعطش، ما لم تُنفّذ طلبات «النصرة» النفطية.
بداية غامضة

تتم تغذية محافظتي حلب وإدلب بالكهرباء عبر الشبكة السورية العامة. وتخصّص الحكومة السورية 200 ميغاوات يوميّاً لمحطة الزربة المسؤولة عن تغذية مدينة حلب. دأبت «النصرة» على تخصيص 175 ميغا للأحياء الشرقية وفيها محطة سليمان الحلبي لضخ المياه (تسيطر «النصرة» عليها)، مقابل 25 ميغا فقط للأحياء الغربية الخاضعة لسلطة الدولة.
الحكاية بدأت عندما قامت «النصرة» بقطع التيار الكهربائي عن مدينة إدلب، لتتبع ذلك بعد يومين بقطع التيار عن أحياء حلب الغربية. حاولت بعض الجهات «الوسيطة» الوقوف على أسباب القطع، بلا نتيجة. الدولة السورية ردّت في المقابل بقطع التيار من مصدره الأساسي (خط الشبكة السورية القادم من حماة، والمسؤول عن تغذية مدينتي حلب وإدلب وريفيهما). نتيجة لذلك، ضجّت المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين في المحافظتين بالنقمة على «النصرة»، وحمّلها السكان وبعض المجموعات المسلحة مسؤولية انقطاع التيار الكهربائي عن مناطقهم.

كذبة «الحرائر»

اختارت «النصرة» اللعب على وتر يصعبُ على الغاضبين عدم الإصغاء إليه، فاخترعت كذبة «الحرائر». وأصدرت «الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة» بياناً تتحدث فيه عن «اعتقال عدد من الطالبات الحرائر في جامعة حلب (قالت إن عددهن أكثر من أربعين)»، وإنها «ستتخذ إجراءات بالتنسيق مع جبهة النصرة في مدينة حلب وإدلب للضغط على نظام الأسد، وإجباره على إطلاق سراحهن». لكن «النصرة» لم تستطع تقديم قائمة بأسماء «الحرائر» رغم مطالبتها بذلك، لتعاود «الهيئة الإسلامية» إصدار بيان جديد يطالب «أهالي الحرائر بمراجعة المحكمة الشرعية في بنّش لتزويدها بأسمائهن». مرّ الوقت من دون أن يُعلن عن الأسماء (لعدم وجودها أصلاً)، وبدلاً من ذلك حصل سكّان مدينة حلب على توقف محطة ضخ سليمان الحلبي عن العمل، نتيجة انقطاع الكهرباء.

المازوت مربط الفرس

بعد أسبوع من توقف المحطة، دخلت مدينة حلب (بشطريها) في أزمة انقطاع تام لمياه الشرب. وفي ظل عدم التوصل إلى حل جذري للمشكلة الأساسية المتمثلة في قطع «النصرة» للكهرباء، تم التوصل إلى حل «إسعافي»، على قاعدة «المازوت مقابل الماء» التي سبق أن تمّ تطبيقها مرات عدّة. ومفادُها قيام جهات وسيطة بتسليم كميات من المازوت يوميّاً إلى «النصرة» لتشغيل مولّدات الكهرباء في محطة الضخ، على أن تستمر عمليات الإدخال حتى التوصل إلى حل جذري للمشكلة. وبالفعل، قامت «مبادرة أهالي» بإدخال 20 ألف ليتر من المازوت إلى المحطة، ليتأخر تشغيل المولدات حوالى 24 ساعة من دون سبب واضح. تم التشغيل بعد مباحثات اشترطت بنتيجتها «النصرة» استبدال الوسيط المخوّل إدخال المازوت.

«وسيط بسمنة ووسيط بزيت»

اشترطت «النصرة» أن تتولى منظمة الهلال الأحمر إدخال المازوت في المرات التالية، بدلاً من «مبادرة أهالي» التي قامت بعملية الإدخال الأولى، من دون تقديم سبب واضح. القائمون على «مبادرة أهالي» رفضوا الإدلاء بأي تفاصيل، سوى تأكيد قيامهم بإدخال 20 ألف ليتر، قبل أن يُشترط استبدالهم، وبرروا الرفض بأنهم «يُفضّلون العمل بعيداً من الإعلام». اللافت أن المازوت الذي تُدخله «أهالي» تتولى منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) تمويله، أما الذي تُدخله الهلال الأحمر فتتولى «المؤسسة العامة لمياه الشرب» تسديد ثمنه (أي من الموازنة الحكومية). وسبق للمؤسسة أن سدّدت 120 مليون ليرة سورية، ثمن إدخالات متتالية قامت بها منظمة الهلال الأحمر في حزيران الماضي، بعد أن افتعلت المجموعات المسلحة أزمة مشابهة عبر تفجير مقصود، رغم القول حينها إن منظمة الصليب الأحمر قد تعهدت بالدفع.

يا فرحة ما تمت

أمس، أعلنت مؤسسة مياه حلب عبر صفحتها الرسمية على «فايسبوك» اعتذارها «عن (عدم) تغذية أي منطقة بسبب ظرف قاهر»، من دون أي إيضاح. وتحدثت بعض «الشبكات» الإعلامية عن «إيقاف ضخ المياه بسبب توقف المضخات في محطة سليمان الحلبي بعد انتهاء المازوت». وتمّ التعتيم على خبرٍ جوهري، مفاده أن «النصرة» رفضت السماح بدخول المازوت الذي نقلته منظمة الهلال الأحمر. وتؤكد معلومات «الأخبار» أن «النصرة كانت تعدُ نفسها بكمية أكبر من الكمية التي تمّ نقلُها (20 ألف ليتر)، وهذا أحد أهم الأسباب التي دفعت الجبهة إلى المطالبة باستبدال الجهة المسؤولة عن الإدخال». ويجدر التذكير بأن الهلال الأحمر كانت تقوم في حزيران الماضي بإدخال أكثر من 40 ألف ليتر يوميّاً.
يكتسب افتعال هذه الأزمة أهمية خاصة في ظل مستجدات المشهد الحلبي. الجيش السوري يوشك على أكمال حصار الأحياء الشرقية، ومن شأن بدء مسلسل الإدخالات أن يبقي الباب مفتوحاً أمام مصدر رزقٍ هائل لتجار الحرب من «النصرة» وشركائها. كذلك فإن الإدخالات ستعود بالضرر على سكان الأحياء الغربية، إذ يتم شراء المازوت لإدخاله إلى محطة الضخ بالسعر النظامي (150 ليرة لليتر)، ومن الحصة المخصصة لسكان الأحياء الغربية بموجب كتاب موجّه من محافظ حلب، ما يعني أن الأحياء الغربية ستخسر 20 ألف ليتر يوميّاً على الأقل من مخصصاتها، إذ يتطلب تشغيل المحطة بكامل طاقتها لمدة 24 ساعة 20 ألف ليتر، مع ملاحظة أن العادة جرت على تشغيلها 12 ساعة فقط، بحجة إراحة المولدات، ما يعني توفير «النصرة» 10 آلاف ليتر، يكون ثمنها في حال بيعت في السوق السوداء 4 ملايين ليرة سورية (20 ألف دولار يومياً). كذلك يمكن الاستفادة منها في تشغيل الآليات العسكرية لـ«النصرة». المفارقة، أن الأخيرة لا ترضى بهذه الكمية، وتطالب بمضاعفتها.