تونس | لم يكن أحد من التونسيين يتصور أن ذلك العجوز، الذي نسي مع من نسي من وزراء بورقيبة، الباجي قائد السبسي، سيكون رئيساً لتونس في حوالى التسعين من عمره، بعد ثورة كان عنوانها الرئيس: (الشباب).فاز الباجي قائد السبسي (١٩٢٦) بنسبة ٥٥،٦٨% من الأصوات أمام منافسه في الدور الثاني، الرئيس المؤقت، منصف المرزوقي، الذي حصل على نسبة ٤٤،٣٢%، وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات ٦٠،١١% من مجموع المسجلين في القوائم الانتخابية. ويمثل وصول السبسي إلى الحكم مفارقة كبيرة بعد ثورة أطاحت النظام السابق في ١٤ كانون الثاني، قادها الشباب، من متخرجي الجامعات، العاطلين من العمل خاصة.

المفارقة في أنه ربح على مرشح "الثورة" و"الربيع العربي" الذي لقي ترحيباً عربياً ودولياً، عند انطلاقته من تونس، أواخر ٢٠١٠، وبداية ٢٠١١، والذي امتدّ بعد ذلك إلى اليمن ومصر وليبيا وسوريا، وأدى إلى نتائج كارثية في معظم الحالات.
صعود السبسي اليوم، بما يمثله من إرث رمزي، باعتباره أحد بناة دولة الاستقلال التي انطلقت في ٢٠ آذار ١٩٥٦، عندما التحق بديوان رئيس الحكومة مستشاراً للحبيب بورقيبة، يمثل نهاية عملية للمشروع الذي بشّر به منافسه، منصف المرزوقي، الحقوقي والمعارض الشرس لنظامي بورقيبة وبن علي، والذي بنى مشروعه على الترويج لمشروع "الربيع العربي" ضد "أنظمة الفساد والاستبداد" وقد كانت انطلاقة هذا المشروع من مدينة سيدي بوزيد، بعد إحراق الشهيد محمد البوعزيزي نفسه في ١٧ كانون الأول ٢٠١٠، وتبعت ذلك احتجاجات غير مسبوقة، انتهت برحيل بن علي، وتولي رئيس وزرائه، محمد الغنوشي، الحكم لليلة واحدة، ليتولى بعده رئيس البرلمان فؤاد المبزع الحكم. لكن شباب الثورة (كما يسمونهم في تونس) أسقطوا الحكومة الأولى والثانية، عبر اعتصامين شهيرين (القصبة الأولى والثانية) ولم تستقر حال البلاد إلا مع تولي الباجي قائد السبسي رئاسة الحكومة في أواخر شهر شباط ٢٠١١.

تسليم السلطة

عندما عاد اسم قائد السبسي إلى الأضواء كان اسماً جديداً لغالبية الشبان الذين شاركوا في الحراك الاحتجاجي، بسبب انسحابه من الحياة السياسية منذ سنة ١٩٩١، بعد سنة واحدة قضاها رئيساً لأول برلمان، في عهد بن علي. لكن السبسي قديم في المشهد السياسي، وله محطّات هامّة مع الديموقراطية، فهو أول من انشق على النظام البورقيبي، عندما استقال من سفارة تونس في باريس١٩٧٠، وقد كان نشره لاستقالته على أعمدة جريدة "لو موند" تحدياً ضمنياً لـ"الأب الروحي" والزعيم، الحبيب بورقيبة، الذي تحدث عن تفاصيل علاقته به في كتابه الشهير "بورقيبة الأهم والمهم". وبعد هذه الاستقالة تتالت الاستقالات من نظام بورقيبة، ومن أشهرها استقالة أحمد المستيري، والحبيب بولعراس، ومحمد مواعدة، ومصطفى بن جعفر، وغيرهم، وذلك على خلفية انتهاك النظام لأسس الديموقراطية، ومنع التعددية الحزبية وحرية الإعلام، وفي سنة ١٩٧٦ أسّس قائد السبسي مجلة بالفرنسية بعنوان "الديموقراطية" كان لها دور حيوي في نشر الثقافة الديموقراطية في بلد لا يؤمن بغير الزعيم الواحد. كما كان قريباً وفاعلاً في المجموعة التي أسست الرابطة التونسية للدفاع عن "حقوق الإنسان"، وكذلك جريدة "الراي" أواخر سبعينيات القرن الماضي، ولم يعد قائد السبسي إلى الحكومة إلا بعد اعتراف الزعيم، الحبيب بورقيبة، بالتعددية الحزبية، وحرية الإعلام، فتولّى وزارة الخارجية في عهد رئيس الوزراء، القريب من الإسلاميين، محمد مزالي، ثمّ سفارة تونس في بون بألمانيا.
استعاد قائد السبسي حضوره في المشهد التونسي بعد فشل حكومتي محمد الغنوشي، ودخل التاريخ كأول رئيس حكومة عربي يسلّم الحكم لحكومة منبثقة من برلمان انتخبه الشعب، وبرئاسة أحد قادة الحركة الإسلامية، حمادي الجبالي، الأمين العام لحركة "النهضة" وقد كان الاحتفال الذي نظّمه في قصر الحكومة بالقصبة، كانون الأول ٢٠١١، سابقة في تاريخ العالم العربي، بعد ثماني سنوات من رئاسة الحكومة التي التزم خلالها بتنظيم الانتخابات، وعدم الترشح لأي منصب، وكذلك كلّ أعضاء حكومته.

العودة

بعد انسحاب السبسي، وتسليمه للحكم، لم يكن أحد يتصور أن العجوز، الثمانيني، سيعود إلى الأضواء. لكنّه اختار، منذ ٢٦ كانون الثاني ٢٠١٢، أن يعود لتحقيق المعادلة في المشهد السياسي، فأسّس حركة "نداء تونس" مع مجموعة من اليساريين واليوسفيين (أنصار صالح بن يوسف الذي اغتاله بورقيبة) والنقابيين والدستوريين، ليغدو حزبه، في وقت قياسي، القوّة السياسية الأولى التي فازت بأكبر عدد من مقاعد البرلمان (٨٦ مقعداً) لتتولى بذلك، حسب الدستور الجديد، تشكيل الحكومة. كما فاز هو برئاسة الجمهورية، محققاً استثناءً تونسياً جديداً، إذ إن الاحتجاجات الشعبية، التي فجرها الشباب، وأسقطت النظام السابق، تكون بذلك قد اختارت عجوزاً على رأس الدولة، في انتخابات كان الشباب فيها الغائب الأبرز. فهل هو الحنين الى بورقيبة؟ أم اليأس من الثورة وحكم الإسلاميين وحلفائهم؟