في الساعة العاشرة والنصف من مساء يوم الثلاثاء (25 حزيران 1996)، هز انفجار شاحنة مخصصة لنقل الوقود في مدينة الخبر (شرق السعودية)، المبنى 131 المخصص لأفراد القوات العسكرية الأميركية العاملة في قاعدة الظهران الجوية، والتي كان من مسؤولياتها مراقبة الحظر الجوي على جنوب العراق يومذاك. أدى الانفجار إلى تدمير واجهات المباني السكنية وقتل 19 عسكرياً أميركياً وجرح المئات من مختلف الجنسيات، لتبدأ لعبة سياسية قذرة جعلت القاتل الفعلي يفلت من العقاب، فيما تم تلبيس التهمة للأصولية «الشيعية»، وتحييد المعارضة الوهابية القريبة من أصحاب القرار داخل المملكة.
وجهت السلطات السعودية يومها أصابع الاتهام إلى مواطنين من الطائفة «الشيعية»، ينتمون بحسب رواية وزارة الداخلية إلى «حزب الله الحجاز». ليتم بين ليلة وضحاها تجريم طائفة بكاملها واعتقال عشرات من أبنائها المشتبه في انتمائهم إلى التنظيم المحظور.

وزير الداخلية: المنفذون أبناؤنا


يساند ذلك التصور تلميح وزير الداخلية السابق نايف بن عبد العزيز آنذاك لصحيفة «السياسة» الكويتية، بمعنى أن السلطات السعودية كانت على علم بالجهة المنفذة للهجوم، وأنه «يشعر بالألم في أن تكون أدوات الإرهاب والمنفذون له أبناءنا». هنا، لا يقصد الرجل مواطنيه «الشيعة»، الذين حكمهم بالحديد والنار، ما جعلهم يصفون فترة وزارته الممتدة من منتصف السبعينيات حتى وفاته في جنيف عام 2012 كتاريخ أسود من العزلة السياسية، بالتضييق والاعتقالات، لأسباب عقائدية ومذهبية.
الدورة السياسية أخذت مجراها إذاً، فيما بدأت الأجهزة الأمنية على الأرض بالعمل بوتيرة سريعة على إخفاء معالم الحدث من مسرح الانفجار. ففي الوقت الذي طالب فيه وزير الخارجية الأميركية آنذاك، وارن كريستوفر والذي كان في زيارة للرياض، بالحضور إلى مسرح الانفجار، ووجه طلبه بالرفض بشكل متعمد ومثير للريبة، وتمّ تأخير وصوله إلى موقع الانفجار إلى أن تغيّرت معالمه، وأزيلت الآثار التي يمكن أن تدّل على الجهة المسؤولة عن الانفجار، فيما سمح لهيئة التحقيقات الفيدرالية «إف بي آي» بزيارة مسرح الحادثة بعد مرور أيام على وقوع الانفجار. رفض الأمير نايف طلب واشنطن التحقيق في القضية، وسمح لسلطات التحقيق الأميركية بعد سنوات ووساطات عدة، بأن يكتبوا أسئلة يوجهها محققون سعوديون وأميركيون يجلسون خلف مرآة باتجاهين! لم تقتنع الولايات المتحدة يوماً بالأدلة التي قدمتها السلطات السعودية لإدانة المتهمين التسعة، وهي لم تعلق ولو عرضياً على الحكم الأخير ضد المتهمين التسعة، فيما تشير مصادر غربية إلى أن هيئة التحقيقات الفيدرالية تورطت مع السعودية لإخفاء الأدلة منذ اليوم الأول للهجوم على القاعدة العسكرية الأميركية، والسر في الصمت هو نية واشنطن التحضير لضرب أهداف حيوية في إيران؛ منها مفاعل «بوشهر»، وتخوفاً من تقارب فهد ـ رفسنجاني اللذين أخذت علاقتهما شكلاً تطبيعياً في تلك الفترة.
ويمكن التقاط إشارات عن الفساد وانعدام الشفافية الذي أحاط بالحادثة. في مذكرات لويس فريه، رئيس مكتب الـ«إف بي آي» السابق، محامي الدفاع عن بندر بن سلطان أمام المحاكم البريطانية بتهمة الرشوة في صفقة أسلحة سعودية ـ بريطانية (فضيحة اليمامة/ نيسان 2009) والذي لعب دوراً رئيسياً في تركيب ملف اتهام إيران ـ «شيعة السعودية»، نجد في الكتاب: «في الحادي عشر من كانون الأول عام 1997 سألتني امرأة، وهي أم لرقيب أول، عمره خمسة وثلاثون عاماً مات في الانفجار، لماذا سمحنا للسعوديين بحجب المعلومات عنا، ومنعنا من الوصول إلى المشتبه فيهم، أخبرتها بأنني رجل أمن، ولست سياسياً».
وفي شهادة أمام اللجنة المشتركة في الثامن من تشرين الأول عام 2000 يقول فريه « لم يمنح أي عميل تابع لمكتب التحقيقات الفيدرالية قط إمكان الوصول مباشرة إلى أي مواطن سعودي قيد الاعتقال».

نايف يحمي «القاعدة»

روجت وزارة الداخلية السعودية رواية واحدة لانفجار الخبر، وهي اتهام أطراف «شيعية» ومن خلفها إيران، وأوصدت الأبواب أمام أي كلام في إمكان ضلوع أطراف أخرى، مثل تنظيم «القاعدة» ومسؤوله أسامة بن لادن الذي كتب قبل ذلك اليوم المشؤوم رسالة مفتوحة إلى الملك الراحل فهد بن عبد العزيز في 11 تموز 1995، يعلن فيها «الجهاد على الأميركيين المحتلين لبلاد الحرمين».
لاحقاً، نشرت صحيفة «القدس العربي»، منتصف شهر آب 1996، معلومات تتعلق بالحركة الجهادية في السعودية، سجلت فيها اعترافات 6 أشخاص من المجاهدين العرب في حرب أفغانستان اعترفوا تحت التعذيب داخل سجون النظام السعودي بارتباطهم بتفجير الثكنة الأميركية في الخبر. فيما كشفت «وحدة بن لادن» في «السي آي ايه»، كيفية تحضير زعيم «القاعدة» وبشكل سري تفجير أبراج الخبر، وبيّنت أن بن لادن سافر في منتصف كانون الثاني 1996 إلى العاصمة القطرية الدوحة، حيث تم الإعداد لخطة الهجوم على مراكز أميركية في المنطقة الشرقية من السعودية، وحدد بن لادن يومذاك بشكل دقيق استهداف مواقع عسكرية أميركية في مثلث «الدمام ـ الخبر ـ الظهران».
لاحقاً، جاء الخبر اليقين على لسان بن لادن، صديق بن نايف السري، في نفس العام يؤكد تورط تنظيمه في التفجير، قائلاً للصحيفة اللندنية: «الجيش الصليبي تمزق حين قمنا بتفجير الخبر». هو الذي لم ينكر يوماً تورط مناصريه في الضلوع بالانفجار الأول في مركز تابع للحرس الوطني في الرياض والذي تشرف عليه القوات الأميركية، في 3 تشرين الثاني 1995، الفاعل الحقيقي اعتقد أنه وجه رسالة كافية لصناع القرار في الولايات المتحدة بضرورة الإسراع في خروجهم من «بلاد الحرمين».

براءة الذئب

بالرجوع قليلاً إلى الوراء في ملف سير القضية، لم يعلق أحد على الثغرة الأكبر في قضية اتهام «المنسيين» أو «شعلة الحراك» وهي ألقاب أطلقها «شيعة الشرقية» لاحقاً على المتهمين التسعة في قضية هجوم الخبر بعد مرور أكثر من 19 عاماً على اعتقالهم دون أدلة مثبتة أو محاكمة عادلة في قضاء موجه حسب رغبة العائلة الحاكمة. وبحسب الشهادات، فإن عبد الله الجراش كان بشهادة زملائه في مدرسة الحكم المتوسطة في الدمام، فيما كان فاضل العلوي وصالح الرمضان وعلي المرهون ومصطفى المعلم داخل السجن وقت حصول الحادثة، ومصطفى القصاب كان مستقراً في لبنان مع عائلته، لحقهم بعدها هاني الصايغ المتهم الرئيسي بقيادة الشاحنة المحملة بطنين من المتفجرات (شهادة الشهود تقول إنه كان ليلة التفجير في مدينة قم الإيرانية حيث كان طالباً في الحوزة الدينية)، وبعد التحقيق معه في واشنطن ـ بعدما سلمته كندا إليها هرباً من تحمل المسؤولية ـ كشفت التحقيقات الأميركية مع الصايغ عدم تورطه في التفجير المزعوم وقامت بترحيله إلى السعودية بحجة عدم كفاية الأدلة، حيث كان يتوقع تنفيذ حكم الإعدام فيه؛ وذلك بحجة حماية مصالحها الاستراتيجية مع الشريك السعودي).
متأخراً أكثر من اللازم، استدعت إدارة المباحث السعودية أهالي المعتقلين التسعة وطلبت منهم التوقيع على ورقة تؤكد إعلامهم بحكم «المؤبد» في قضية أبنائهم المنسيين، دون تفاصيل تذكر، حيث عرض آخر متهم على هيئة تحقيق في القضية قبل ستة عشر عاماً من اليوم.
كل ما يعرفه أهالي المنسيين ومن خلفهم قادة الحراك في المنطقة الشرقية أن الحكم غير المسبوق في قضية يعتبرها «الشيعة» ألبست لهم، ليست إلا عقاباً على خروجهم للمطالبة بما اعتبروه حقاً في «مملكة الخوف والصمت»، كسر الصمت لم يكن سهلاً هذه المرة، لم يتوقف التصعيد من جهة الأهالي أو السلطات منذ أربع سنوات حتى اليوم. الاعتقالات والقتل مستمران في تلك المنطقة الغنية بالنفط... والقادم أسوأ.