دمشق | حملت الحرب في سوريا مفارقات عدة، عصية على الفهم أحياناً. من بينها تلك المتعلقة بإيجابيات وسلبيات الإقامة بالقرب من الجبهات العسكرية الساخنة، حيث لا يزال بعض المدنيين يفضلون عدم ترك مناطقهم، برغم المخاطر الكثيرة التي تحدق بها.قصص بسيطة يرويها سكان تلك المناطق، تُظهر في بعض جوانبها أن الحياة لا تتوقف حيث تعمل آلات الحروب والدمار، بل إنها مستمرة، بما تيسر.

إياد نجم، طالب في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، غادر جميع أفراد أسرته منزلهم الواقع في شارع نسرين في حي التضامن، جنوب دمشق. بعد انفتاح مخيم اليرموك وأجزاء واسعة من منطقة التضامن على الحرب، فضَّلت العائلة مغادرة الحي هرباً من احتمالات الموت، واستئجار أحد المنازل في حي الدويلعة. أما هو، فقد اختار البقاء في منزله بشارع نسرين. يقول إن المنطقة تحولت «إلى منطقة عسكرية كبيرة، لكن هذا يعني، من ناحية أخرى، أنها مخدَّمة على نحو أفضل. الكهرباء والماء والهاتف والإنترنت، كل تلك الخدمات متوافرة هنا أكثر من المناطق الآمنة التي باتت تزدحم بالسكان». ويشير في حديثه، مثلاً: «صباحاً عندما أذهب إلى الكلية، لست مضطراً إلى المناوشات على أبواب حافلات النقل، عدد السكان بات أقل، ولم يزل هناك بعض الحافلات تعمل».
تضع بعض
المفارقات السكان أمام خيارين: البقاء أو اختيار المناطق الآمنة

ويبدو أن مفارقات كهذه تضع سكان العاصمة أمام خيارين. إما الإقامة في المناطق الآمنة نسبياً، بما يحمله ذلك من تكاليف باهظة، ابتداءً من الإيجارات المرتفعة للمنازل وصعوبة توفير كامل الخدمات، وصولاً إلى المعاناة اليومية على صعيد المواصلات. وإما الخيار الآخر، وهو البقاء في المناطق القريبة من الجبهات، وتكبّد احتمالات التعرض لخطر القذائف العشوائية، أو حتى لتمدد الاشتباكات بسرعة لتطاول منطقتهم.
فضلت عائلة أبو حسام حمدان، الستيني النازح من حي القابون منذ أكثر من سنة ونصف سنة، البقاء في شارع الحمصي في مدينة جرمانا، الشارع الذي كان له النصيب الأكبر من قذائف الهاون التي استهدفت المدينة. يبرر حمدان خيار العائلة بتكاليف الإيجارات، ويقول: «فيما كان إيجار المنزل في أحياء جرمانا الأكثر أمناً يصل إلى ثلاثين ألف ليرة سورية (حوالى 150 دولارا أميركيا)، كانت أجرة المنزل في شارع الحمصي لا تتجاوز نصف المبلغ»، فضلاً عن أن الكهرباء «كانت متوافرة لوقتٍ أطول، لأن خطنا موصول بأحد الخطوط العسكرية القريبة من بلدة المليحة. لهذا فإن العيش بالقرب من الجبهة جيد نسبياً»، يضيف حمدان.
على جانب آخر، لا يمثل عامل توافر الخدمات مقياساً موضوعياً لإطلاق الأحكام. أدهم ناصيف، الطالب في كلية الزراعة في دمشق، يسكن في ضاحية حرستا، ويرى أن الخدمات المتوافرة في منطقته «أعلى نسبياً» من تلك المتوافرة في المناطق الآمنة. غير أن «ذلك لا يعني أن الحياة جميلة هناك. هذه الخدمات ندفع مقابلها يومياً دماء وشهداء جددا وخوفا وقلقا يوميا. أن تعيش على الجبهة يعني أن تنتظر الموت كل لحظة». ويضيف ناصيف: «ثم إن المواصلات في الضاحية لا تطاق، حيث يستغل سائقو الحافلات الوضع الخطر لفرض تعرفة ركوب مبالغ فيها جداً».

الأسرة تتناوب منعاً لـ«التعفيش»

لا تقف القصص عند مناقشة فوائد البقاء من عدمه. فلمغادرة المناطق الساخنة، أو ما يسمى الجبهات، تداعيات أخرى.
تعتمد أكثر من أسرة سورية نزحت من مناطق قريبة من خطوط المعارك، على مناوبات في ما بينها للإقامة في المنزل الذي نزحت منه. الشباب لهم النصيب الأكبر في ذلك، حيث يعتقد كثيرون أن بقاء فرد واحد في المنزل، على الأقل، قد يمنع محاولات مقاتلي الطرفين للسيطرة عليه، أو تحويله إلى مقرٍ عسكريٍ، وفي أفضل الحالات الاكتفاء بسرقة أثاثه، ولا سيما في المناطق التي جرت بالفعل سرقة أثاث منازلها الفارغة وإحراقها في بعض الحالات.
يروي علي شقرا، أحد سكان المنطقة الفاصلة بين حيي جرمانا والمليحة، قائلاً: «بعد نزوحنا إلى وسط جرمانا، تناوبنا أنا وأبنائي الثلاثة على حراسة منزلنا السابق، والتعب الذي تحملناه ثلاثتنا لم يذهب عبثا إذ إننا حصدنا خيراً، حيث جرت سرقة أكثر من ثلاثة أرباع منازل المنطقة، ولم يكن بيتنا واحدا منها».