غزة | يكاد الجيل الجديد في المنطقة العربية لا يعرف سوى اسمين لمشروعين في فلسطين، حركة «فتح» و«حماس»، المعروفين بخلافاتهما الدائمة، فيما يبرز اسم «الجهاد الإسلامي» خلال الحروب والتصعيدات الإسرائيلية. بين الثلاثة لا يسمع صوت كبير لفصائل اليسار الفلسطيني، التي هي أقدم في التأسيس ومقاومة الاحتلال من الخيار الإسلامي.
ففي ظل واقع الانقسام العملي بين «فتح» و«حماس»، ترسخت المعادلة الآتية منذ ثماني سنوات: في الضفة المحتلة تبتلع السلطة حركة «فتح»، وتخضع مدن الضفة للعبة الترويض الأمني والاقتصادي. أما في غزة، فتعاني «حماس» ارتباكاً واضحاً جرّاء إشكالاتها في المنطقة، بعدما اختارت بهويتها الأيديولوجية اصطفافاً حوصر أخيراً، ما حرمها قطف أي ثمار بعد الحرب الأخيرة، رغم إبداع فصائل المقاومة كافة في التصدي.
رغم الأزمة القائمة، لم تستطع تنظيمات اليسار، على اختلاف أدبياتها ومرجعياتها، صياغة برامج جديدة للحل، سواء على مستوى النضال والتحرر، أو في مجال الخدمات ومشكلات الناس المتزايدة. ويرجع سبب ذلك في أصله إلى ذوبان معظم هذه التنظيمات في «المنظومة الأوسلوية»، واختزال أخرى مهماتها في تفريخ منظمات أهليّة خاضعة لسقف اشتراطات الدول المانحة، وغالبيتها من الغرب!
مع ذلك، قد يكون صعباً إغفال دور كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الذراع المسلحة لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في حرب غزّة. إذ أحدث نشاط الكتائب ووحداتها الصاروخية كوّة عميقة في جدار الترهّل اليساري، ولا سيما أنه جاء بعد خلاف جرت لملمته في إطار منظمة التحرير، بينها وبين «السلطة ـ فتح»، وتهديد الموازنة المخصصة للجبهة داخل المنظمة.
صعود «الشعبية» العملاني على سلّم المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي حرّك المياه الراكدة قليلاً، لكنه فتح مروحةً من التساؤلات عن إمكانيّة استثمار جولتها القتالية الأخيرة في إجراء مراجعة شاملة لنهجيها العسكري والسياسي، وهل يمكن ذلك أن يخلق هوية واحدة داخلها بعدما عاشت حالة فصام بين جناح مقرّب من «حماس»، وآخر يعيش في ذيل السلطة؟ وحتى في حضور اليسار بالوساطة أخيراً بين «فتح» و«حماس»، كان أشبه بحضور الغائب، ما دام الفصيلان الأكبران يتصالحان في الأساس بعيداً عن رأي البقية.

عوامل التراجع

من الظلم القول إن الاهتزاز في الحراك اليساري الفلسطيني نابع من انهيار الاتحاد السوفياتي فحسب. فهناك سمات ذاتية ومتغيّرات موضوعية سبقت وتلت انقضاء الحقبة الغورباتشوفية، إذ عمدت التنظيمات اليسارية إلى استقاء النظريات الجاهزة من المدارس السوفياتية والماوية والجيفارية وإسقاطها على الواقع الفلسطيني دون أيّ مراعاة لخصوصيته. أيضاً كانت الهوية الفكرية لها ملتبسةً ومتأرجحةً بين الماركسية القومية والشيوعية، إذ وجد معظم اليسار الفلسطيني أصوله في التيار القومي العربي باستثناء الحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب حاليّاً) الذي تتأصّل جذوره في الحزب الشيوعي السوري.
هذه الإشكالية الفكرية أفرزت انقساماً حاداً بين القوميين والشيوعيين الفلسطينيين إثر موقف الحركة الشيوعية العالمية (الكومنترن) خلال الحكم الستاليني من الحركة الصهيونية وقبولها قرار التقسيم 181 عام 1947 واعترافها بإسرائيل. كذلك أدت الانشقاقات التنظيمية دوراً محورياً في تفتيت وحدة قوى اليسار، خصوصاً بعدما انشقت «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين» عن «الجبهة الشعبية» عام 1968، إضافةً إلى عجز حركات اليسار عن المزاوجة بين المسارين الاجتماعي والنضالي، وتكلّس بنيتها التنظيمية في مركزية خلقت هوّة واضحة بين القمة والقاعدة الجماهيرية.
ويشرح الكاتب، عادل سمارة، أنّ «اليسار الفلسطيني تعرّض منذ البدايات لمحاولات تهميش عبر تمويل هائل لليمين كي يبتلع معظم الشباب الفلسطيني، وتحديداً الجبهة الشعبية التي أصابها التفتّت جرّاء الانفصال المبكر (جماعة أحمد زعرور، ثم أحمد جبريل، ثم جماعة نايف حواتمة، ثم الجبهة الثورية أبو شهاب)». هذا قاد بدوره إلى أفول نجم اليسار الذي لمع في الستينيات والسبعينيات أيام عمليات النضال النوعيّة، ثم جاء الركود في الثمانينيات مع تنامي ظاهرة التدين وصعود قوى الإسلام السياسي («الجهاد الإسلامي» ثم «حماس»)، فضلاً عن أحداث مفصليّة في المنطقة كاتفاق كامب ديفيد، بين مصر والاحتلال، والثورة الإيرانية وحروب الخليج، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
تحولت تنظيمات يسارية
في كنف السلطة إلى
يمينية وليبرالية


أسهم كل ما سبق في تجزئة الواقع القطري العربي، وتفريخ قوى يسارية ملحقة بالسلطات الحاكمة في البلاد العربية التي صارت تميل إلى الولايات المتحدة، ومن هنا يمكن مقارنة التهاوي اليساري الفلسطيني بمشهد اليسار العربي. لكنّ خصوصيّة الحالة الفلسطينية تركت أثراً سلبياً مضاعفاً في اليسار الفلسطيني المنضوي تحت جناح منظمة التحرير، بعدما تورطت الأخيرة في الحرب الأهلية اللبنانية وأسهمت في تضخّم أجهزتها بعيداً عن الدائرة الجماهيرية، وكانت كبرى الحركات المتأثرة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
كذلك جاء موقف المنظّمة المؤيّد للاجتياح العراقي للكويت ليضرب سهماً آخر في الجسد الهزيل، فتوقفت المساعدات الخليجية المالية التي كانت تدعم الصندوق القومي الفلسطيني الذي كان يستفيد منه اليسار، الأمر الذي استغلته السلطة لاحقاً كورقة ابتزاز لليسار. هنا يؤكد عضو المكتب السياسي لـ«الجبهة الشعبية»، رباح مهنا، أنّ «المخصصات الماليّة ليست منّة من أحد، بل هي حق شرعي للجبهة، خصوصاً أنها لا تخضع لأي نظام عربي أو مصالح إقليمية» مستدركاً: «أبو عمار (ياسر عرفات) وأبو مازن (محمود عباس) استخدما هذه الورقة للضغط».

نقطة الانهيار

منذ عامي الانتفاضة الأولى، يمكن التأكد من أن وهج اليسار خفت كثيراً، ولم تتمكن فصائله من صياغة استراتيجيات تزيح الشريحة اليمينية «الكومبرادورية» في منظمة التحرير عن السيطرة الفعلية في مقدراتها. وفور سقوط مراكز الدعم المالي واللوجستي السوفياتي للمنظمة، سارع حزب الشعب الفلسطيني (الحزب الشيوعي سابقاً) إلى تغيير اسمه والتودّد لـ«فتح»، إلى أن بات نسخة كربونية عنها في الوقت الراهن، بل أقحم نفسه في كل تشكيلة وزارية تابعة لرام الله.
وخلال تلك الانتفاضة، كانت «الشعبية» أكثر قرباً من «حماس»، لكنها دفعت ثمناً لذلك المماطلة في تقديم الدعم المالي عبر المنظمة. وبعد أن خضعت أراضي الضفة وغزّة لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني (أوسلو 1993)، زجّ باليسار المسلّح في سجون السلطة، لأن التنظيمات اليسارية رأت في أوسلو اتفاقاً استسلامياً يجوّف القضية من مضامينها. ومع ذلك لم تصمد على موقفها طويلاً، فسرعان ما انغمست في المنظومة الأوسلوية وتعاملت معها على قاعدة أنها واقع لا يمكن التنصّل منه، لتكرّ بعد ذلك السُّبحة وتندمج شخصيات يسارية في المؤسسة الأمنية الفلسطينية وتحوز امتيازات خاصة، وإن كانت شكلياً تمثل معارضة موالية، ووسيطاً بين «فتح» و«حماس».
ليس عند هذا الحد فقط، فقد استنسخ اليسار نهج «فتح» في خوض الانتخابات التشريعية وضخّ المال الغربي المشروط في جمعياته ومنظماته الأهلية التي تطفح بها الضفة والقطاع حاليّاً. لكن المفاجأة كانت أن «حماس» اكتسحت عام 2006 المقاعد البرلمانية، مقابل حصول القوى اليسارية على 2% فقط من تلك المقاعد بسبب اصطفافها مع «فتح». فلم تستسغ هذه القوى النسبة الضئيلة، فطالبت آنذاك بإعادة إجراء الانتخابات وفقاً للنسبية بدلاً من نظام الدوائر.
اكتسحت «حماس» عام 2006 المقاعد البرلمانية، مقابل حصول القوى اليسارية على 2% فقط


بعد عام، جاء الانقسام الفلسطيني وسيطرة «حماس» على غزّة، 2007، لتعاود فصائل اليسار الوقوف مع «فتح» ضمنياً، بل صدر موقف من الأمين العام المساعد السابق لـ«الجبهة الشعبية»، عبد الرحيم ملوح، مجاهراً بلوم «حماس» وتحميلها كلّ ما يجري في غزّة بعد تضييق الخناق عليها.
وبينما كانت السلطة تعمل على برنامج حل الدولتين الذي يقتطع أكثر من 70% من فلسطين التاريخية لمصلحة الاحتلال، لم تشكّل قوى اليسار المنضوية في كنف «فتح» أي كتلة حقيقية لمعارضة المفاوضات وسياسة التنسيق الأمني، بل حضرت بعض الوجوه في لقاءات تطبيع، مثل وجود عضو اللجنة المركزية لـ«الجبهة الديموقراطية»، قيس عبد الكريم، في أحد اللقاءات التطبيعية الشهيرة التي جمعت رئيس السلطة، محمود عباس، بطلاب إسرائيليين.
برغم الصورة القاتمة لحالة اليسار، ثمّة أصوات أخرى عاكست التيار السائد، ودفعت مخصصاتها الماليّة ثمناً لذلك. يمكن إعطاء مثال بما حدث قبل أشهر مع النائبة في المجلس التشريعي، خالدة جرار، التي انسحبت من إحدى جلسات اللجنة التنفيذية للمنظمة لاعتراضها على المفاوضات والفساد السياسي والمالي الذي ينخر جسد المنظمة، وآنذاك سادت حالة من الغليان بين «الجبهة الشعبية» و«أبو مازن» الذي قرر آنذاك قطع العلاقات نهائياً مع «الجبهة» ومخصصاتها المالية (الأخبار 22/5/2014).
بالتوازي مع ذلك، ظهر أن مواقف شباب اليسار والكتل الطلابيّة التقدميّة في الجامعات المعارضة للمفاوضات وبرنامج أوسلو، تشكّل هاجساً حقيقياً للسلطة وقيادات اليسار التابعة لها. ويعقب عادل سمارة على هذا المشهد بالقول إن «الجبهة بقيت تعاني صراعاً داخلياً بين الجيل الثوري والقيادة اليمينية، ما دفع كثيراً من جيل الوسط إلى الخروج من التنظيم رغم محاولات الشهيد أبو علي مصطفى تجليس البنية مع عودة بعض القيادات إلى الضفة وغزّة، وهو ما كان قد رفضه حكيم الثورة جورج حبش». ويستدرك: «الروح الثورية القوميّة والاشتراكية لم تمت في الجبهة، لذا حينما توافرت فرصة العودة إلى الكفاح المسلح، كما الحرب الأخيرة، فعل مقاتلو الجبهة ما يمكنهم رغم قلة السلاح والنفقات».
بالعودة إلى المشاركة في العملية السياسية، يقول مصدر يساري من الضفة، لـ«الأخبار»، رفض ذكر اسمه: «صحيحٌ أنّ خوض الجبهة الشعبية الانتخابات التشريعية كان إحدى حلقات الاهتزاز الفكري، لكننا على ضعفنا داخل المنظمة وخارجها نشكّل مصدر قلق دائم لدى السلطة، خصوصاً بعد انعقاد المؤتمر الوطني السابع حيث ظهرت بوضوح بوادر مجابهة شديدة لسياسة السلطة وممارساتها، مع تقرب ملحوظ من مواقف حماس».
وتابع المصدر: «حزب الشعب، مثلاً، بات أكثر يمينيةً وليبراليةً من فتح، ويشغل عضو المكتب السياسي فيه، نافذ غنيم، منصب مدير في أحد أجهزة السلطة، وهو يتقاضى راتباً مقداره 8000 شيكل شهرياً (2200 دولار) مقابل تبنيه خطاب عباس ودخوله معارك كلامية دفاعاً عن الرئيس ضد اليساريين المعترضين». وأضاف: «جبهة النضال الشعبي التي يقودها وزير العمل السابق، أحمد المجدلاني، طالبت في أحد اجتماعات اللجنة التنفيذية بقطع الرواتب وإلغاء العلاج في الخارج لأهل غزّة عقاباً لهم لأنهم لم يثوروا على حماس».
ولا يخفى كذلك إخضاع شخصيات بارزة بالنمط نفسه، كتعيين ياسر عبد ربه أمين سر للتنفيذية، إضافةً إلى تقاضي عبد الرحيم ملوح راتبا شهرياً يراوح ما بين 4000 ـ 6000 دولار وحصوله على امتيازات أخرى كمكتب خاص وبطاقة VIP (سحبها العدوّ قبل أيام من مالكيها)، فيما تتهمه قيادات، وذلك مقابل إحباطه جملة قرارات اتخذتها «الجبهة الشعبية» في ما يتعلّق بإسقاط «أوسلو»، ورفض سياسة السلطة، ودراسة آلية الانسحاب من تنفيذية المنظمة.




الكفاح المسلّح... «الشعبية» نموذجاً

انصرفت معظم فصائل اليسار عن امتشاق السلاح بعدما كانت الرائدة في ذلك منذ أوائل الستينيات، لكن تموضع «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطيني» في خندق المقاومة المسلّحة تجلى في الحرب الأخيرة على غزّة، بعد سنوات طويلة فصلتها عن تنفيذ عملية الاغتيال النوعية بحق وزير السياحة الإسرائيلي، رحبام زئيفي (17/10/2001)، وخصوصاً أنها كانت من أوائل أول من كسر الهدنة وردّت على حملة الاحتلال، مع سرايا القدس (الجهاد الإسلامي)، قبل نشوب الحرب. ويوضح عضو المكتب السياسي، رباح مهنا، أنّ «الجبهة في الجولة الأخيرة قاومت وفق التكتيكات المناسبة وإمكاناتها الماليّة المحدودة التي صارت بحاجة إلى توسيعها بعدما أثبتت أنها لم تتخلّ عن المقاومة المسلحة»، مؤكّداً أن «المؤتمر الوطني السابع شدد على رفض منظومة أوسلو ومكتسباتها والاستقطابات السياسية الحاليّة».
وعن غياب اليسار، يعزو مهنا ذلك إلى فقدان تيار يساري موحّد له رؤية واضحة مقابل القطب الثنائي (فتح وحماس)، فضلاً عن ظروف أخرى. وتابع: «من المعروف أنّ القيادة النوعية لليسار في سجون الاحتلال، لكن التغيير الداخلي جارٍ وإن كان بطيئاً».