في الحديث عما انتهى إليه الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، وما جرى في الشارع بعد قرار محكمة جنايات القاهرة أول من أمس، يظهر أن إنهاء الحلقة ما قبل الأخيرة من «ثورة 25 يناير» واستحقاقاتها كان «موفقاً» من حيث التوقيت والظرف السياسي. فلا يمكن بحال فصل «تبرئة» مبارك ونجليه وأهم معاونيه جملة واحدة، عن سياقات ما تعيشه مصر على المستوى السياسي والأمني، وحتى علاقاتها الخارجية.
ولا شك أن موعد النطق بالحكم كان معداً وفقاً للوائح القضائية، لكن هناك سياقات أخرى جرى تحريكها قبل الجلسة وبعدها، وكان لها أثرها، ومنها تضخيم «خطر تظاهرات يوم 28 نوفمبر»، والاستفادة منه لدفع تعزيزات أمنية كبيرة إلى الساحات، مسبقاً، لمواجهة متظاهرين خرجوا عبر «دعوة سلفية» ليست معادية للنظام بالقدر الذي تعاديه جماعة «الإخوان المسلمين»! أيضاً، تزامن ذلك مع تعزيز مكانة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، دولياً خلال الجولة الأوروبية الأخيرة.
رفض السيسي التعقيب
على الأحكام، لكنه أمر بدراسة تعويض الأهالي

كما تبع الجلسة بيوم زيارة للملك الأردني، عبد الله الثاني، أجرى فيها لقاءً سريعاً مع السيسي في مطار القاهرة، لكن لم يرشح من بيان اللقاء إن شمل الحديث قضية مبارك أو لا، وذلك بالتزامن مع سلسلة «تهان خليجية» للرئيس المخلوع. منذ البداية، كان يُحكى «إخوانياً» عن رجاء إماراتي للإفراج عن مبارك وإنهاء قضيته بما لا يمس حياته كـ«عربون وفاء» لخدمات الرجل. ولكن هذه النظرية تتصادم مع واقع سنة كاملة قضاها الرئيس المخلوع في عهد الرئيس المعزول (محمد مرسي) داخل السجن، وبعبارة أخرى: ما يمكن استنتاجه أنه بقدر تأثير الظروف الداخلية التي صارت جاهزة للتقبل، أو اللامبالاة، بمصير مبارك، فإن العوامل الخارجية ليست بعيدة، وخاصة أن الرئيس الوحيد الذي لاقى مصيراً سوداوياً في «الربيع العربي» كان معمر القذافي، فيما خرج البقية بأقل الخسائر.
بعد مضي يوم على قمع تظاهرات محتجة خرجت في الشوارع والجامعات، باعتقال المئات وقتل وإصابة آخرين، فإن السيسي وضع طرفي المعادلة أمس، وهي باختصار: أحكام القضاء «لا يجوز التعقيب عليها»، لكن «مصر لن تعود إلى الوراء»، وفي الكفة الأخرى «تكليف رئيس الحكومة باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمراجعة تعويضات ورعاية أسر شهداء ومصابي ثورة 25 يناير». هذا ما خلص إليه بيان الرئاسة، يوم أمس، إذ صرح بـ«ضرورة إعمال مبدأ الفصل بين السلطات، وتأكيد الثقة الكاملة في عدالة قضاة مصر ونزاهتهم وحيادهم وكفاءتهم».
كذلك أمر السيسي بالتعجيل في «دراسة التعديلات التشريعية على قانون الإجراءات الجنائية التي أشارت المحكمة (محكمة مبارك) إلى ضرورة إجرائها، وإعداد تقرير عنها لتقديمه إلى رئيس الجمهورية»، وهو ما يتوجس منه كثيرون أن يكون مقدمة لإنهاء آخر القضايا عن مبارك تمهيداً للإفراج عنه قريباً، مع أن النائب العام، هشام بركات، أمر بدراسة حيثيات القضية «لاتخاذ قرار للطعن على هذه الأحكام أمام محكمة النقض»، أو العكس.
وقد يكون مهماً التدقيق في البيان الذي تلاه رئيس محكمة مبارك، محمود الرشيدي، وكان أقرب إلى البيان السياسي المطالب بغفران «خطيئة» مبارك، أكثر من كونه نصاً قانونياً محكماً في قضية جنائية. وليس أدل على ذلك من جملة «مهما كان الرأي على الفترة التي تسلم فيها (مبارك) حكم البلاد، إذا قاربت 36 عاماً ما بين نائب لرئيس الجمهورية ثم رئيساً للجمهورية، فأصاب ولم يصب، فالحكم له أو عليه، بعدما انسلخ منه العمر، سيكون للتاريخ وبالأحرى لقاضي القضاة الحق العدل الذي سيسأله كحاكم عن رعيته»!
في الشارع، بقدر ما كانت الصدمة تلف وجوه المصريين، فإنها لم تحرك فيهم مدّاً جماهيرياً مثلما كان قبل نحو ثلاث سنوات ونصف. هنا يمكن التركيز على الظروف الداخلية المواتية لإخراج مبارك من السجن، إذ يبحث الناس بعد تجربة المجلس العسكري، ثم حكم الإخوان ورئيسهم محمد مرسي، وليس أخيراً الاضطرابات الأمنية والاختلال الاقتصادي، عن شيء واحد هو الاستقرار، والاستقرار فقط. كما ظلت الإجراءات الأمنية المشددة حاجزاً عن التفكير في خطوات بعيدة المدى، فيما كان تشتت الأحزاب المتبقية من بعد حل أحزاب كبرى، والمناداة بعودة مرسي إلى الحكم، يقفان حائطاً ثالثاً للخوف من ذهاب أي جهد احتجاجي جديد هباء.
وإن كان «الإخوان» سيستفيدون مما صدر بحق مبارك، ولو مرحلياً، فهم يواجهون عدة عقبات، أولاها القبضة الأمنية المشددة وسلسلة الأحكام الجديدة بحق قادتهم في السجون، ثم التهادن المتوقع بين الدوحة والقاهرة، إضافة إلى انعدام الثقة بين الشباب الثوريين في الإخوان، وهم أصلاً يعانون الملاحقة الأمنية على خط موازٍ. ما سبق، يشير بالضرورة إلى أن اندلاع احتجاجات واسعة على «براءة مبارك» لن يكون سيناريو متوقعاً، أو قريباً في أحسن الأحوال، رغم إعلان الموقع الرسمي لـ«الإخوان» دعوة «حركات ثورية وطلابية إلى أسبوع ثوري ضد براءة المخلوع وللمطالبة بتحقيق العدالة الانتقالية» يبدأ يوم غد (الثلاثاء). أما عن مصير مبارك، فأفاد أحد أعضاء هيئة الدفاع عنه، المحامي الكويتي فيصل العنتيبي، بأن «الرئيس الأسبق يستعد لجولة شكر خليجية، وخاصة إلى الكويت مطلع العام المقبل، على أن تعقبها زيارة أخرى للمملكة السعودية لأداء فريضة الحج». وأضاف العنتيبي لـ«الأخبار»، إن «مسؤولين خليجيين اتصلوا بمبارك لتهنئته على حكم البراءة فور صدوره، ومن بينهم سعوديون وكويتيون»، وذلك نظراً إلى «المكانة المتميزة» التي يحظى بها الرجل لديهم، لكنه رفض الكشف عن فحوى هذه الاتصالات. كما أجرى ملك البحرين اتصالا هاتفيا، أمس، مع «أخيه الرئيس المصري الأسبق (مبارك) هنأه فيه بصدور حكم البراءة».
وقد لا يكون مفاجئاً التلميح السويسري، أمس، إلى إمكانية استعادة مبارك أمواله المجمدة في بنوك سويسرا في حال ثبتت براءته، لكن حديث مدير إدارة القانون الدولي في الخارجية السويسرية أشار إلى أن هذه القضية تتطلب مجموعة إجراءات ووقتاً ليس قصيراً.
(الأخبار)