لحظات بعد إصدار القضاء المصري قرارات البراءة حيال الرئيس المخلوع، محمد حسني مبارك، وبقية المسؤولين، عاد الشارع ليعرف، ولو جزئياً، حراكه الحقيقي، حراك 2011، وذلك بعيداً عن تهويل النظام بتظاهرات «الإسلاميين»، النغمة متواصلة منذ تموز 2013، تاريخ عزل الرئيس محمد مرسي.
وظهرت أجزاء من القاهرة إبان القرار منقسمة بين مشهدين: غضب عارم كان أهالي «شهداء 25 يناير» ركيزته الرئيسية، فيما هلل أنصار مبارك فرحين ببراءته، وحملوا صوره، وذلك في وقفة لم يتعرض لها الأمن، ولم يحاول تحذيرهم، أو فضها، كما حدث مع نظيرتها في التحرير.
وبرغم أن الحراك الراهن قد يقف عند حدود التحركات الاحتجاجية، فإنه يشكل الإرهاصات الأولى لمشهد معارض جديد سيُقابل به نظام القاهرة الحالي خلال المرحلة المقبلة.
ومساء أول من أمس، انطلقت مسيرة الغاضبين حيال القرار من ساحة عبد المنعم رياض، وانضم إليها عدد من أهالي «شهداء 25 يناير» من أمام نقابة الصحافيين في شارع عبد الخالق ثروت في وسط القاهرة. وردد المشاركون في المسيرة، التي سرعان ما فضها الأمن، هتافات تعبر عن حال الغضب العارم، منها «يسقط حسني مبارك» و«الثوار مش بلطجية» و«القصاص القصاص»، فيما رفع آخرون صور مبارك واضعين عليها الأحذية.
وقتل شخصان، وأصيب 13 على الأقل، عندما أطلقت قوات الأمن عبوات الغاز المسيل للدموع والخرطوش لتفريق المحتجين الذين حاولوا دخول ميدان التحرير في القاهرة، المعقل الرمزي للانتفاضة ضد مبارك. وبررت وزارة الداخلية موقفها بالقول إن الشرطة فرقت التظاهرة بعدما ظهر عدد من عناصر من «الإخوان المسلمين» وبدأوا رشق الحجارة، فيما قال مصدر أمني إنه جرى اعتقال نحو مئة شخص. وذكرت «وكالة أنباء الشرق الأوسط»، الرسمية، أن الأمن أغلق محطة مترو أنفاق قريبة في محاولة على ما يبدو لمنع مزيد من التجمعات في وسط المدينة.
وبتجول «الأخبار» حول المستشفى العسكري، الذي لا يزال الرئيس المخلوع يعالج فيه، فقد رصدت حالة من الاستنفار الأمني أمام الجناح الذي يقطنه. وقالت مصادر قريبة من دائرة علاجه لـ«الأخبار»، إن «القوات المسلحة استنفرت ورفضت ما فعله فريد الديب (محامي مبارك) عندما سمح له بإجراء مداخلة هاتفية عبر قناة صدى البلد المصرية، التي نالت توكيلا حصرياً لإذاعة المحاكمة».

تلقف القرار سياسياً


وفي أول ردود الفعل السياسية على القرارات، رأى مؤسس «التيار الشعبي» المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، حمدين صباحي، أن «حكم الشعب أقوى وأبقى». وأضاف، في تغريدة له على موقع «تويتر»، إن «الشعب أصدر حكمه النهائي على مبارك منذ 25 يناير». وتابع: «العار للطغاة وإن أفلتوا من العقاب، والمجد للشهداء ولو أنكروا دمهم».
واعتبرت حركات شبابية أن أحكام البراءة الصادرة ما هي إلا جولة جديدة من جولات الصراع بين النظام والداعين إلى التغيير. ورأى بعضهم أن الحل يكمن في «التنظيم الثوري». وقال القيادي في «حركة شباب 6 إبريل»، زيزو عبده، إن «الأحكام ليست صادمة كما يراها المحسوبون على ثورة 25 يناير».
واعتبر عبده، الذي شارك في انتفاضة المحلة إبان حكم مبارك، أن «الصراع محتوم بين الدولة العميقة التي تحاول الحفاظ على مكتسباتها وبين الوطن الجديد»، رافضاً في الوقت نفسه وصف الحكم بأنه يمثل «شهادة وفاة لثورة يناير». وأكمل: «صراعنا لم يكن مع شخصيات بعينها ولن نتوقف عن رغبتنا في تغيير سياسات الدولة».
برغم ذلك، فقد استدرك القيادي في «حركة 6 إبريل» بالقول إن الحكم «سيؤثر في معنويات المحسوبين على الثورة في ظل تحجيم دور الشباب»، موجهاً اعتذاره للشهداء: «احنا آسفين للشهداء والضحايا... وآسفين للشعب علشان صدقنا الحلم».
من جهة أخرى، اعتبر «التحالف الوطني لدعم الشرعية ورفض الانقلاب» (كان يمثل أداة سياسية لجماعة الإخوان) أن «الحراك الثوري ضد الانقلاب الدموي الفاشي مستمر ومتتابع في كل مكان، والثورة مستمرة ولن تتوقف في كل ميادين التحرير حتى إسقاط الانقلاب ومحاكمة قادته والقصاص لدماء الشهداء والإفراج عن المعتقلين واستعادة ثورة يناير التي انقلب عليها العسكر». وأعلن «التحالف»، في بيان مقتضب، دعمه «للتظاهرات الشعبية الغاضبة والرافضة لأحكام براءة المخلوع مبارك وعصابته»، مؤكداً دعم «التظاهرات التي احتشدت في ميدان التحرير وميادين مصر كلها رفضاً لهذه الأحكام الجائرة».
وقد تلاقى موقف «التحالف» مع ما من يوصف بـ«المرجع الروحي» لجماعة الإخوان، الداعية يوسف القرضاوي، الذي حذر «قاضي الأرض من قاضي السماء»، مضيفاً إن الحكم بحق مبارك «يوم حزين في تاريخ العدالة البشرية، ووصمة عار في جبين القضاء المصري». وأشار «إلى ديّان يوم الدين، نمضي وعند الله تجتمع الخصوم».
وتابع القرضاوي، في سلسلة تغريدات عبر حسابه الرسمي على موقع «تويتر»، القول: «أطاح الانقلاب جميع حقوق الشعب الدستورية، وألغى كل الاستحقاقات الانتخابية التي خرج الشعب المصري ليقول كلمته فيها بإرادة تامة وحرية كاملة... حوّل الانقلابيون وجه مصر الحضاري إلى صورة مشوهة، فلا حريات متاحة، ولا قضاء حر، ولا حقوق مكفولة، ولا عدالة اجتماعية، ولا قوة اقتصادية».
على جانب آخر، دعا نائب رئيس «حزب الوسط» (المنسحب حديثاً من تحالف دعم الشرعية)، حاتم عزام، إلى «توحيد الصف الثوري». وقال عزام، في تدوينة على موقع «فايسبوك»، إن «ثورتنا حية بدماء شهدائها ووحدة صف أبنائها ومطالبها في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية... يسقط حكم السيسي مبارك».
وعلى مقلب آخر، قال عضو الهيئة العليا في «حزب الوفد»، ياسر حسان، إن «الحكم منطقي طبقاً للأوراق المقدمة بالقضية من البداية»، مضيفاً: «كده مبارك خرج من حياتنا ولا يوجد مزيد من الوقت لضياعه، ويجب أن ننظر إلى الأمام». وشدد حسان، في حديثه إلى «الأخبار»، على ضرورة أن يسير الحراك السياسي طبقاً للدستور، وأن «نتمم الاستحقاق النيابي بموعده للحفاظ على الدولة». لكنه استبعد الخروج إلى الشارع مجدداً ضد مبارك، أو للمطالبة بإعادة محاكمته.
أما نائب رئيس «حزب المؤتمر»، صلاح حسب الله، فاعتبر في تصريحات لـ«الأخبار»، أنه «لا يمكن إنكار أن البعض منزعج من البراءة... لكن على الجميع الآن أن ينظر إلى المستقبل أكثر من الماضي». وأضاف إن «مبارك ورجاله أصبحوا خلف المصريين الآن، ولا وقت للنظر إلى الخلف». ورأى حسب الله، أن الأهمية تكمن، راهناً، في أن يستمر الحراك السياسي واستكمال الاستحقاق الانتخابي.
بدوره، دعا «حزب الإصلاح والتنمية» إلى «احترام أحكام القضاء التى صدرت ـ مهما كانت تحفظاتنا عليها ـ ولا سيما أن كلمة القضاء هي الفيصل فى أي دولة تحترم القانون والدستور». وأشار رئيس الحزب، محمد أنور السادات، إلى أن «المحكمة أصدرت أحكامها وفقاً للأدلة المقدمة إليها، والعقيدة التي كونتها عن تلك القضية، بعد استماعها إلى مرافعات المحامين ودفاع المتهمين عن أنفسهم، وكذلك الاستماع إلى أقوال النيابة وشهادات الشهود». وتابع السادات: «إذا كنا ننادي بضرورة تطبيق الديموقراطية وإعلاء دولة القانون في بلادنا، فيلزم علينا أولاً احترام أحكام القضاء وعدم التعليق عليها، وعدم التدخل في عمل الهيئات القضائية واستخدام الطرق المشروعة للتعبير عن الآراء بدلا من توجيه انتقادات وهجومات بلا معنى»، مشيراً إلى أن «استقلال القضاء واحترام أحكامه وتنفيذها باتت ركناً جوهرياً فى أى نظام ديمقراطي».

حراك الجامعات

عموماً، لم يهدأ الشارع المصري بعد، ومن غير المعروف المدى الذي سيأخذه. وحتى وقت متأخر أمس، اندلعت احتجاجات في عدد من الجامعات المصرية للتنديد بالحكم. وتجمع مئات المتظاهرين في «جامعة القاهرة» ولوحوا بصور مبارك خلف القضبان وطالبوا «بإسقاط النظام»، وهو الهتاف السائد في مسيرات «الربيع العربي». ووقفت قوات الشرطة في حالة تأهب عند بوابات الجامعة لمنع الطلاب من نقل تظاهراتهم إلى الشارع.
وقالت البوابة الإلكترونية لصحيفة «الأهرام» الحكومية إن اشتباكات اندلعت في «جامعة الزقازيق» في دلتا النيل، واعتقل 11 طالباً بعد إشعالهم النيران في مبنى. وتكررت تظاهرات مئات الطلاب في عدد من الجامعات. كما وقعت اشتباكات بين طلاب «جامعة الإسكندرية» في شمال البلاد وأفراد شركة أمن خاصة، عندما حاولوا إشعال الألعاب النارية داخل الجامعة.
كذلك ألقي القبض على ثمانية طلاب في «جامعة طنطا» في الدلتا عندما اشتبك الطلاب مع أفراد الأمن الإداري للجامعة. واعتقل تسعة طلاب آخرين في «جامعة المنيا» في صعيد مصر خلال تظاهرة منددة بالحكم، وأيضاً شهدت «جامعة كفر الشيخ» تظاهرة رافضة للحكم، لكن لم تقع مواجهات مع الأمن.
المقر الرئيسي لـ«جامعة الأزهر» في القاهرة شهد هو الآخر حالة هدوء تام، ولم تطرأ فيه أي تظاهرات ضد الحكم القضائي، برغم أنها كانت معقلاً رئيسياً للاحتجاجات والمصادمات العنيفة مع الأمن خلال العام الدراسي السابق بعد عزل مرسي. كذلك كانت الحال في «جامعة عين شمس»، القريبة، التي وقف الباعة الجائلون حول أسوارها يبيعون أغطية الرأس والإكسسوارات للطالبات في هدوء، وبلا خوف من اندلاع مواجهات بين الطلاب والأمن.
(الأخبار)