القاهرة | عاد القضاء المصري إلى قفص الاتهام مجدداً بعدما دخل في دوامة تناقضات سريعة كشفت، ولو عن طريق المصادفة، أن الظرف السياسي يتحكم في طبيعة الأحكام الصادرة عنه. ففي الوقت الذي حكمت فيه محكمة جنايات القاهرة ببراءة الرئيس المخلوع حسني مبارك ونجليه وكبار معاونيه من اتهامات قتل المتظاهرين، أدانت دائرة أخرى (بعد يوم) المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة، محمد بديع، مع 26 شخصاً آخرين بتهمة إهانة القضاء، فقررت سجنهم ثلاث سنوات بعد هتافهم ضد المحكمة في جلسة «الهروب الكبير من سجن وادي النطرون» خلال «ثورة 25 يناير».
الحقيقة التي ينكرها الجميع، بمن فيهم القضاة أنفسهم، أن السياسة تتحكم في مجريات الأمور بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن حاول بعضهم الحياد، فإن واقع المجتمع يتطلب منهم الانحياز المسبق في بالأحكام. ويمكن الاستدلال على ذلك بأن القضاة الذين وقّعوا على استمارات «تمرد» لعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي من السلطة، هم أنفسهم الذين شاركوا في الإشراف على الانتخابات البرلمانية عامي 2005 و2010 التي زوّرها مبارك ورموز نظامه، وفي ذلك اليوم لم يخرج سوى عدد محدود منهم للاعتراض على عمليات التزوير.
ومنذ ما بعد «25 يناير»، يدير نادي القضاة المستشار أحمد الزند الذي لا يخفي مع مجموعة كبرى العداء مع "الإخوان" بسبب محاولة الجماعة إزاحة عدد كبير من «شيوخ القضاة» عن المنصة، وكان ذلك يجري بتعديلات تشريعية بخفض سن التقاعد وإدخال دفعات كبيرة من خريجي كليات الحقوق إلى النيابة العامة، وخاصة أعضاء الإخوان، الأمر الذي جرى تحويله إلى عملية انتقامية ينفذها القضاة ضد أعضاء الجماعة.
وبالمقارنة مع التخفيف الذي واجه مبارك، ظهر أنه في عشرات الدوائر التي تم إسناد قضايا جماعة الإخوان فيها إلى القضاة، فإنه لم يتنح منهم قاض واحد لاستشعار الحرج بسبب الخصومة مع الجماعة أو معارضته لها، بل كانت جميع الأحكام التي تصدر مشددة من دون استخدام الرأفة في أي قضية، إلى درجة إصدار أحكام بالإعدام بالعشرات مقابل تهمة مقتل ضابطين، رغم أن المبدأ القانوني الخاص بشيوع الجريمة يمكن تطبيقه لتخفيف العقوبة، فيما اختارت جميع الدوائر تقريباً تشديد العقوبات على الإخوانيين رغم النقص الواضح في أدلة الإدانة.
من هنا تحديداً، لا يمكن النظر إلى حكم مبارك ومعاونيه من دون الإطار العام للنظام القضائي والثغر الموجودة في التشريعات الخاصة به؛ فالمحكمة برّأت مبارك لوجود خطأ من النيابة في طريقة إحالته على المحاكمة، لكنها أغفلت نصاً قانونياً كان يتيح لها أن تجري التحقيقات بنفسها في مكان الأحداث، وفقاً لقانون الإجراءات الجنائية.
أكثر من ذلك، فمشكلة القضاء المصري ليست في تعاطف غالبية أعضائه مع أعضاء رموز نظام مبارك بالتزامن مع معاداة الإخوان فحسب، بل أيضاً في الأجهزة الأمنية التي تقدم الأدلة إلى النيابة العامة التي تحولها بدورها إلى المحكمة، والمؤكد أن خروج القيادات الفاسدة «على المعاش» (التقاعد) لم يتم حتى الآن رغم اقتراب الذكرى الرابعة لـ«ثورة 25 يناير» التي كان فساد وزارة الداخلية أحد أسبابها.
أيضاً من المهم الإشارة إلى أن «الداخلية» لا تزال تعج بالعشرات من "اللواءات" المقربين إلى الوزير الأسبق، اللواء حبيب العادلي، ونقل أن عدداً منهم كان يؤدي التحية العسكرية للعادلي تعبيراً عن الولاء، حتى حينما كان في السجن، بل لا تزال صوره موجودة في عدد من أقسام الشرطة ومكاتب الضباط.
وبالعودة إلى ما قبل عهد مرسي، يمكن تحميل جزء من إشكالية تبرئة مبارك ومن معه إلى المجلس العسكري السابق برئاسة المشير حسين طنطاوي. فعدد كبير من الضباط المتهمين في قضايا قتل المتظاهرين استمروا في ممارسة عملهم لعدة شهور، بل بعضهم بدأت محاكمتهم وهم لا يزالون في الخدمة، الأمر الذي مكّنهم من محو أدلة الإدانة. كذلك تمكن رئيس ديوان رئيس الجمهورية الأسبق، زكريا عزمي، من حرق وفرم الآلاف من الوثائق التي تدين مبارك بعدما استمر في منصبه لنحو ثلاثة شهور بعد سقوط النظام.
وعلى العكس كان التصرف مع جماعة الإخوان، إذ ظلت الأجهزة الأمنية تتصيّد أخطاءهم وتصوّر لقاءاتهم بالصوت والصورة لتكون أدلة إدانة لاحقة. فالأجهزة التي قدمت تقريراً يدعم الموقف القانوني لمبارك هي نفسها التي جهزت أدلة إدانة نظام الإخوان من أجل الزج بهم في السجون، وفقاً للقانون، وذلك أيضاً بالاستفادة من تعالي الجماعة خلال وجودها في السلطة، فيما ثغر القانون تسمح بكل شيء.
ولمن يسأل عن سبب أخذ حيثيات حكم في براءة مبارك، ورفض ما تقدم به دفاع مرسي مع أنه مشابه لحال الأول، يمكنه النظر إلى تناقض قرارات إحالة النيابة الرئيسين للمحاكمة الجنائية. وإن انتهت قضايا مبارك، فإن تهمة قتل المتظاهرين في الاتحادية ليست الوحيدة لمرسي الذي يواجه اتهامات بالتخابر والتجسّس والهرب من السجن، وهي قضايا تصل عقوبتها إلى الإعدام وفقاً للقانون.