نون نصارستفرد الصحف، بالتأكيد، مقالاتٍ طوالاً عمّا حدث ويحدث في المدينة الساحلية الجميلة. لكن بالتأكيد لن يُحكى أبداً عن ألم الناس وأوجاعهم. في خضمّ العاصفة، لا يعرف الجالسون في الدفء أبداً كيف يعيشُ أهل غزّة تحت البرد، وهم لا يمتلكون أي وسيلة للتدفئة، خصوصاً مع الحصار الخانق الذي يمارسه الجانب المصري الشقيق، كما الجانب الصهيوني العدو. هنا يتساوى العدو والصديق، الأخ مع الغريب القاتل.
هنا تبدو كل الأشياء المستحيلة ممكنة: هنا غزّة. تفرد غزة مساحاتٍ جديدةٍ لصفاتِ البشر الخلاقة للشر؛ يصبح الموت حدثاً عادياً، عرضياً، ينتشر بهدوء، لا يوقفه شيء ولا يحدّ من تأثيره أي شيء. وتقول الحكاية التي لا تشبه أياً من قصص الأطفال - أو الكبار حتى - إن طفلين كانا يستدفئان، فأشعل لهما والدهما شيئاً من خشب المنزل. احترق المنزل، احترق الولدان وبقية عائلتهما، هكذا بكل هدوء، صرخا، بكل ما أوتيا من قوةٍ صرخا، ملآ الدنيا صراخاً وعويلاً، لم يسمعهم أحد.

كانت العاصفة بصوتها وضجيجها أعلى منهم، حتى صوت البحر كان أعلى وأكثر صخباً. سقط شهيدان جديدان، لا شيء جديداً في غزّة، لا شيء مستحيلاً في غزّة.
شابٌ سقط شهيداً خلال العدوان الأخير، شقيقه الأصغر سببت حقنة دواءٍ فاسدة إعاقته مدى الحياة، فوجب على أهله إطعامه كل شيءٍ "مخفوقاً". ما العمل إذا لم يكن بالإمكان "خفق" الطعام وطحنه؟ ما العمل إذا لم تكن هناك "كهرباء" للقيام بذلك؟ ما العمل؟ هل نلحق الطفل بأخيه الشهيد لمجرد أنّ وغداً ما قرر إغلاق المعبر ومنع "الكهرباء" عن الناس؟ يقولون إن السياسة لا تقتل. صدقوا، إنها تقتل في غزّة، كل يومٍ تقتل. هل يمكن شخصاً جالساً في الدفء أن يجلس "متنمراً" على إخوته الجالسين في البرد وتحت المطر كما كانوا قبل أشهرٍ عرضة للموت؟ وفوق كل هذا يحاسبهم ويحاكمهم، بل ويطلق عليهم صفات الإرهاب والقتل وسواها.
وبعد كل هذا سيقول متفلسفٌ "أخلاقي/سياسي/علمي/ثقافي/دينيٌ" كبير إنه يجب على الغزّيين أن يكونوا كيت وكيت، وإن عليهم أن يفعلوا الشيء الفلاني، والأمر العلتاني هو يجلس في نفس المكان الدافئ ينظّر عليهم وهم يجلسون في بردهم وألمهم وحزنهم. هو يعلّمهم كيف يجب أن يعيشوا، وكيف يجب أن يموتوا، وإلا فسيصبحون "أوغاداً" وقتلة" وأي شيءٍ آخر "تتفتق" قريحته عنه.
بعد كل هذا سيستغرب الكوكب، كل الكوكب كيف سيقرر الغزيون أن يستشهدوا تحت غارات جيش الاحتلال الصهيوني. فجيش الاحتلال رحيمٌ مقارنةً بظلم الإخوة الأشقّاء. "لا شيء يا أبتي؛ لا شيء يقتلني إلا حب إخوتي إليّ". تحت الغارات وتحت الموت كان للغزي معنى، وكان لموته قيمة، لم يكن مجرد خبر، كان رمزاً لكرامة الأمة، لكنه اليوم يموت فقيراً جائعاً متألماً، ولا يراه أحد. وسائل الإعلام؟ لا تغطيه، قنوات التلفزة؟ لا تستذكره، الناشطون؟ ليس قضيتهم؛ المحبون؟ غير متنبهين. إذاً، على الغزّي أن يرحل بحثاً عن الجيش العبري كي يخوض معه نزالاً قادماً، لأنه لا حل إلا بذلك، لربما حتى على الغزّي أن يقاتل حتى لا يبقى منه شيء ساعتها لربما، يريح ويرتاح.
هو ألم الفلسطيني، ألمه الذي لا مفر منه ولا آخر، من فلسطين الذاكرة، إلى مخيم اليرموك المشظى المدمى، إلى غزّة الجائعة إلى كل شيء. هو ركض الفلسطيني إلى حتفه تحت رصاصات القناص أو بوابة المعبر، هو إدراكه أن لا شيء سهل وكل شيءٍ هو أصعب الصعب، وأن مجرد لمّ الشمل مع العائلة هو "حلم"، والجلوس مع الأحبة هو "جائزة".
يدرك الفلسطيني ذلك تماماً ويألفه، بنفس الوقت ينتظر موته أثناء انتظاره لكل تلك الأشياء التي يحبها. ينتظر موته بنفس مقدار حبه لكل ذلك.