حيفا المحتلة | إذا كانت «الطائفية مقبرة الأوطان» كما يشاع، فإن الدولة، بهويتها الوطنية الجامعة، يجب عليها أن تدفن الطائفية، لكن حينما لا تكون «الدولة» إلا احتلالاً يغذي الطائفية ويتفاعل معها جدلياً، فلا بدّ من إشهار الهوية الوطنية القومية كسلاح يحارب الطائفية ودولتها معاً. ينطبق ذلك على الوضع في منطقة الجليل الأعلى، شمال فلسطين المحتلة، حيث المنطقة الغنية بالتعدد الطائفي، وباتت تشهد محاولات حثيثة «للبننتها» على اليد الإسرائيلية.
كل ذلك يأتي تمهيداً لفرض التجنيد على المسيحيين، ومحاربة الوعي القومي المتزايد بين الدروز الذين باتوا يتحدّون قوانين التجنيد الإلزامي في جيش الاحتلال، وخاصة مع ازدياد أعداد الرافضين للخدمة.
من يذهب إلى قرية أبو سنان في الجليل الغربي (شرق عكا) تصادفه دوريات الشرطة وحرس الحدود التي تفتش الداخل والخارج من القرية وإليها، وتسأل عن بطاقات الهوية. ومع أن الأحداث الداخلية التي شهدتها القرية أخيراً، أصبحت وراء الظهر، فإن التوتر لا يزال قائماً، ومتمثلاً في عدّة أمور، أولها بقاء الأمن على «خطوط التماس»، إضافة إلى استمرار إغلاق المدارس الثانوية للأسبوع الثالث على التوالي.

من الكوفية إلى القنبلة!

الأسبوع قبل الماضي، حدث شجار بين طلاب مدرسة ثانوية في القرية، على خلفية وصول بضعة طلاب مسلمين إلى المدرسة وهم يرتدون الكوفية، وذلك إثر مقتل الشاب، خير حمدان، من قرية كفركنا (الـ48) على أيدي قوات الشرطة، فأثارت الكوفية غضب طلاب دروز من عائلات تخدم في جيش الاحتلال، لتتدخل إدارة المدرسة لفض الشجار بين الطلاب، لكنه انتقل إلى صفحات مواقع «التواصل الاجتماعي»، وتطور لاحقاً إلى شجار بين طائفتين، ثم اتسع ليشمل القرية التي يجاوز عدد سكانها عشرة آلاف.
مع دخول الأصوات المشبوهة، ازداد الخلاف واستخدم الرصاص الحي والمفرقعات والقنابل اليدوية، ومحاولات الدهس الجماعي، حتى بلغ عدد المصابين من الطرفين إلى نحو أربعين، وخاصة أن أحدهم ألقى قنبلة «شظايا» أدّت إلى إصابة العشرات.
القرية التي كانت مثالاً للتعايش والوحدة الوطنية، والمحصورة بين دوار جمال عبد الناصر في أولها، ودوار سلطان باشا الأطرش في آخرها، تحوّلت إلى كتلة مشتعلة من الحقد الطائفي، بل أخذت تهدد بانتقال الحريق إلى مناطق أخرى. في اليوم التالي لذلك الخلاف، شلّت الحركة تماماً داخلها، وأغلقت المدارس ومعظم المؤسسات الرسمية. وظلت شرطة الاحتلال التي حضرت إلى المكان تراقب من بعيد دون تدخل فعلي، وإن سجّلت بعض الاعتقالات، فإنها لم تعتقل رامي القنبلة التي كادت أن توقع مجزرة، ولا هي أيضاً أدت «واجبها» واعتقلت من حاول دهس مجموعة من الشباب الدروز، ثم استمرّت أحداث العنف لأسبوع بالتوازي مع بيانات تدعو إلى التهدئة من الأطراف كافة.

اصطياد في الماء العكر


مع تطور الأحداث وصلت إلى المكان مجموعة من المتظاهرين اليهود المتطرفين الذين ادعوا أن مجيئهم هو «لإعلان تأييدهم للدروز في مواجهة المسلمين»!
الإعلام العربي المحلي تعامل مع الموضوع، بدايةً، كشجار عادي، وقارب القضية من جانبها الجنائي، لكنه منذ اللحظة الأولى أشار إلى مواجهات طائفية، بل جعل من الحدث خبراً رئيسياً احتل شاشات المواقع ونشرات الأخبار لساعات.
ومع أن لجنة المتابعة عقدت في القرية اجتماعاً جماهيرياً، وأقرّت لجنة للصلح، فإنّ الاصطياد في الماء العكر لم يكن من جانب متطرفي اليهود والإعلام العبري فقط، فقد كان موقفاً غريباً للشيخ رائد صلاح أن دعا، خلال اجتماع في القرية، إلى «فصل بين الطلاب باستحداث مدارس للدروز وأخرى للمسلمين»، الأمر الذي اعتبره بعضهم فصلاً عنصرياً.
أمّا أيوب القرا، وهو عضو الكنيست اليميني، فعقد اجتماعاً لشبان دروز في القرية وعمل على تحريضهم، ما حدا رئيس المجلس المحلي في القرية (البلدية)، نهاد مشلب، إلى إصدار بيان ندّد فيه بتدخلات القرا. وممّا جاء في بيان مشلب: «هناك أياد خبيثة تمتدّ للعبث والاصطياد في المياه العكرة، كأمثال أيوب القرا، وأقول له إنّ كلّ يد تمتدّ للعبث بوحدة أبو سنان سنقطعها»، مندداً بـ«أصحاب النيات الخبيثة الذين يريدون العبث بوحدة البلدة».
اليد الاسرائيلية لم تغب عن المشهد باختيارها اعتقال شباب دون آخرين
بعد موقف صلاح الذي يرأس «الحركة الإسلامية»، أصدرت الأخيرة بياناً نددت فيه بأحداث العنف، وباركت إقامة لجنة للصلح، مشدّدة على ضرورة العمل لتجنب الفتنة! تلا ذلك بيان مشابه عن «لجنة التواصل الدرزية»، وهي لجنة وطنية تعارض التجنيد وتعمل على تأكيد عروبة دروز فلسطين، وضرورة تواصلهم على أسس وطنية مع دروز سوريا ولبنان، علماً بأنه قبل هذه الحادثة شهدت بعض قرى الجليل والكرمل توتراً على خلفية الأزمة السورية، لكن أحداث جبل الشيخ الأخيرة وسقوط عدد من القتلى الدروز في معارك مع «جبهة النصرة»، وهو ما دفع الدروز في فلسطين إلى تنظيم تظاهرات تعترض على مساندة إسرائيل لمسلحي «النصرة» في منطقة القنيطرة، وآخرها تظاهرة أمام مستشفى صفد اعتراضاً على إدخال الاحتلال جرحى من المسلحين لعلاجهم. وقبل أحداث أبو سنان بأيام قليلة، كان من المقرر أن ينظم الدروز تظاهرة كبيرة أمام مستشفى نهاريا الذي تحرسه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وهو مقر رئيسي لمعالجة جرحى مسلحي المعارضة السورية.
وأيضاً، صدر موقف آخر من الشيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، وأصدر بياناً مندّداً.

الحريق يمتد... لكن


أحداث «أبو سنان» امتدت إلى قرى أخرى في الجليل والكرمل، وشهدت تلك القرى اعتداءات كان أبرزها الاعتداء على شاب مسلم دخل إلى قرية درزية في الجليل الأعلى، الأمر الذي لاقى إدانة من سكان القرية وقيادتها المحلية، إذ اعتُذر رسمياً من الشاب المعتدى عليه، وفرض «الحُرُم الديني» على المعتدين.
حادثة مماثلة وقعت في إحدى قرى جبل الكرمل، إذ اعتدى شبان دروز على بائع جوال من منطقة المثلث، وصوّروا الاعتداء ونشروه على مواقع «التواصل الاجتماعي»، الأمر الذي أدانه الدروز قبل المسلمين، ثم اعتُذر للمعتدى عليه رسمياً، ودعي إلى زيارة القرية والاجتماع بقادتها.
ومع أن الأحداث الطائفية تبدو كأنها تطوّرت من شجار عادي، وحوّلها الاحتقان إلى حريق طائفي كاد يشعل منطقة الجليل بأسرها، فإن اليد الاسرائيلية لا تبدو غائبة عن المشهد، لأن الاعتقالات كانت منتقاة بما يؤجّج المشاعر الطائفية، كذلك فإنّ متورطين أساسيين في النزاع (من كلا الطائفتين) لم يجر اعتقالهم بعد، الأمر الذي يظهر كيف يجري «سكب الزيت على النار».
ويوم الاثنين الماضي، تظاهر عدد من أبناء القرية أمام مقر شرطة عكا مطالبين الشرطة باعتقال المتورط برمي القنبلة، منتقدين التباطؤ في ذلك. وحتى أمس، كان الوضع في أبو سنان هادئاً، لكن الاحتقان لا يزال ملحوظاً، والحياة لم تعد إلى طبيعتها بعد، فيما يحاول الأهالي ومعهم قيادات من المجتمع المحلي تكثيف الإجراءات التي تعجّل بتهدئة الخواطر.
إلى ذلك، بلغ عدد الإصابات، نتيجة الأحداث، نحو خمسين وصفت بعضها بالخطيرة، فيما تنوعت الأخرى بين المتوسطة والطفيفة، ولا يزال الجرحى يتماثلون للشفاء تباعاً، الأمر الذي قد يخفف وطأة التوتر ويدفع الأمور إلى التهدئة.




نتنياهو للدروز: أنتم من أبناء جلدتنا

صدر بيان عن ديوان مكتب رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، عقب الاجتماع بينه وبين الرئيس الروحي، للطائفة الدرزية الشيخ موفق طريف، وذلك لمناقشة قانون القومية اليهودية وتخوفات الأقليات منه.
وافتتح نتنياهو اللقاء بالقول للدروز: «أنتم من أبناء جلدتنا وجزء لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي»، مقدماً التعازي بمقتل الشرطي المساعد أول زيدان سيف الذي قضى في العملية التي ارتكبت في كنيس في القدس المحتلة، وأيضاً مقتل الرائد جدعان أسعد في عملية دهس في المدينة المحتلة قبل أسابيع، والاثنان من الطائفة الدرزية.
ولا يخفى أن حديث رئيس وزراء الاحتلال يأتي من باب التكييف والتمهيد لمشروع القانون، نشر بالتفصيل أمس. وأضاف نتنياهو خلال: «يسقط أفراد الشرطة والجنود الدروز الشجعان من أجل حماية الدولة ومواطنيها جميعاً، ونحن نحمي حقوقكم وأمنكم»، متابعا: «إننا ملتزمون بذلك من الناحية العاطفية وتم التعبير عن هذا الالتزام عبر الجماهير الغفيرة التي حضرت جنازتي الشهيدين (القتيلين)».
ووصف بيان مكتب نتنياهو ما يجري بأنها «معركة كبيرة ضد المتطرفين الإسلاميين، وهذه المعركة ليست سهلة، وهم يشكلون تهديداً خطيراً... من وجهة نظري، معركتكم هي معركتي، ومعركتي هي معركتكم»!
(الأخبار)