غزة | تغري أشعة الشمس المواطن أبو سليمان أبو مخيمر لاحتساء فنجان قهوة مع شركائه في العمل صبيحة إجازة اضطرارية فرضها غياب «الإسمنت» عن معمله. ينفث دخان سيجارته ممتعضاً من الأحوال الاقتصادية التي عطلت أعماله، ولم تدع له سوى مهمة تكسير ركام المنازل المدمرة في الحرب الأخيرة، ثم خلطها بأي اسمنت متوافر لصناعة حجارة البناء.
يتلقى أبو مخيمر بين يوم وآخر اتصالات من مواطنين قصف الاحتلال منازلهم، ويطلبون منه رفع الركام مقابل استبداله بكمية من الحجارة لإعادة بناء مأوى مؤقت. يستجيب لبعضهم ويعتذر من آخرين، فمشكلة انقطاع التيار الكهربائي، وتقطع وصول الإسمنت من «السوق السوداء»، لا يمنحان كسارته الوجبة المنتظمة يوميا.
وراجت في قطاع غزة بعد الحرب الأخيرة فكرة إعادة استخدام ركام المنازل المدمرة وتكسيرها لصناعة «الحصمة» (الحصى)، ثم إعادة استخدامها في صناعة حجارة البناء وبعض الإنشاءات البسيطة التي لا تحتاج إلى مواصفات عالية، وكل ذلك لمحاولة تخطي غياب أهم مواد الإنشاءات: الحصمة والإسمنت.
ويبلغ ثمن طن الإسمنت في غزة حالياً 3200 شيكل (840 دولارا)، وجلّه يرد من «السوق السوداء»، فيما يبلغ ثمن طن الحصمة قرابة 150 شيكل (نحو40 دولارا)، وهي أسعار تعد أضعاف ثمنها في الوقت الطبيعي خارج فضاء الحصار. وتُشير إحصاءات وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة إلى أن الركام الناجم من الحرب الأخيرة يقدر بـ2.5 مليون طن من المباني والمؤسسات المختلفة، وهو ما يُعادل أربعة أضعاف ركام الحرب الأولى 2008 ـ 2009.
في باحة مصنع «أبو مخيمر»، يصل بين حين وآخر عمال العربات التي تجرها الحيوانات، فيفرغون حمولتهم ويتقاضون أجرة كل حمولة 15 شيكل (4 دولارات)، لكن شحّ الإسمنت رفع ثمن الحجارة الناتجة من إعادة طحن الركام إلى ضعفين. يشرح صاحب المصنع: «الحجر مقاس 10 سم ثمنه دولار، أما مقاس 15سم فثمنه 1.2 دولار، فيما مقاس 20سم يصل إلى حدود 1.7 دولار، لذلك لا يشتري منا إلا المضطرون»، مضيفا: «الركام كثير... يتصلون بي يومياً، فأقيّم الكمية وأنقل الركام وأعطيهم بدله حجارة وأحياناً نقودا».
وعند كل حمولة، يترقب عشرة عمال في المصنع وصولها، فينهالون على الحجارة المدمرة وأعمدة الباطون بالمطارق قبل إطعامها للكسارة التي تقطعها إلى حصى متفاوتة الحجم، ثم تجري تصفية الركام لطرد الغبار الناعم قبل إنتاج الحصمة أو تصنيع الحجارة.
أما أبو محمد أبو يوسف، فهو صاحب مصنع حجارة كان يعمل على الإسمنت العادي، لكنه عاد للمرة الثانية لامتهان تكسير الركام وصناعة الحجارة بعدما جرب ذلك عقب حرب غزة 2009. يقول أبو يوسف: «الآن ثمن شوال (كيس) الإسمنت 180 شيكل (47 دولارا) لذا أتوقف عن صناعة الحجارة مؤقتاً حتى أشتري الإسمنت من السوق السوداء بسعر أفضل... أضع دلو إسمنت عل كل وجبة من الركام لأصنع حجرا أكثر قوة، لكن سعره سيكون مرتفعا».
وألّفت «الأشغال والإسكان» بعد الحرب لجنة للاستفادة من الركام بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة وسلطة جودة البيئة، وكانت الكسارات أهم الوسائل في تفتيت وإزالة الركام، فيما كان مقرها الرئيسي في جحر الديك شرق القطاع. ويقدر أن المستفيدين من نقل الركام مئات من المتعطلين عن العمل، ومع أن مرادهم في الركام موجود في كل القطاع، فإن بعضهم اتجه إلى استخراج «الحصمة ـ الزلط» من مجاري الأودية في غزة، وأشهرها «وادي غزة» و«وادي السلقا»، ويبررون ذلك بأن الزلط أكثر صلابة، لكن أصحاب المصانع اكتشفوا أنها تتلف أسنان الكسارات في مصانعهم.
بين هؤلاء، يجلس تاجر مواد بناء يدعى موسى مزهر مع ثلاثة آخرين وهم يتبادلون حديث السياسة والحصار. يشتري مزهر لزبائنه كل أنواع الحجارة المصنعة من الركام، مع أنه متأكد من أن جودتها أقل، نظراً إلى أن «مادة الحصمة مشبعة بالإسمنت غير المتجانس». يقول: «أكشف لك سرّا... طن الركام لا يكلف أصحاب المصانع كثيراً لأن الركام متوافر وثمن الطن منه لا يتجاوز 50 شيكل (13 دولارا)»، ويتابع: «قديما كان صاحب الكسارة يشتري الركام ويكلفه نقله، لكن الآن الركام كثير وينقلون الصندوق بوزن طن واحد بأربعة دولارات فقط، ثم يبيع فقط طن الحصمة من الركام بحوالي 100 شيكل (26 دولارا)».
أما العمال، ومنهم الشاب أحمد السوري، فيبدون رضاهم بهذه المهمة. أحمد مثلا يملك عربة يجرها حصان، ويقول إنه ينقل يومياً ركام المنازل بمعدل ثلاث نقلات كل نهار، أي إنه يجبي نحو 45 شيكل يوميا (12 دولارا).
في المقابل، هناك بعض المصانع التي رفضت التعاطي مع هذه الطريقة، إذ يقول محمد العصار، وهو صاحب مصنع «التعاون» للباطون الذي دمره الاحتلال في الحرب، إنه ليس مقتنعا بجودة الحصمة أو الحجارة المصنعة من الركام. ويؤكد أنه حصل على آراء خبراء ومهندسين في مصنعه شددوا على أن «حصمة الركام» لا تصلح لإنشاء «سقف» أو «أعمدة» الباطون، وإن كان يمكن استخدامها في بعض أعمال البناء.
برغم ذلك، يشجع وكيل وزارة الاقتصاد في غزة، حاتم عويضة، أعمال «الكسارات» ما دامت لا تنتج عنها أضرار بيئية وتلتزم إجراءات الترخيص المتبعة في الإدارة العامة للمصادر الطبيعية في وزارته، ووزارة البيئة. وكانت «الاقتصاد» صاحبة أول «كسارة» لتفتيت «ركام» الاحتلال بعد انسحابه من غزة سنة 2005، لكن مليون طن من ركام حرب 2009 وفق تفسير المهندس عويضة أنتج نماذج «كسارات» أخرى كمشاريع صغيرة ومشاريع مؤسسات «سهلت صناعة حجارة الأرصفة واحتياجات البلديات».