غزة | منذ اللحظة الأولى لاتهام رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس حركة «حماس» بالاجتماع سراً مع الأمم المتحدة والاتفاق على آلية للإعمار، اشتم الغزيون أن رائحة تعطيل عملية إعمار قطاع غزة ستأخذ وقتاً أطول مما مضى. وبما أنه لا «دخان بلا نار»، حاولت «الأخبار» التأكد من ذلك الادعاء عبر مراجعة قيادات من الحركة اتهمت بأنها اجتمعت سراً مع مبعوث الأمم المتحدة لعملية التسوية في الشرق الأوسط روبرت سيري في غزة، لكن الوصول تعذر إلى أي ممن ذكرت أسماؤهم في محضر الاجتماع (نائب رئيس المكتب السياسي لحماس موسى أبو مرزوق، والقيادي في الحركة غازي حمد)، وذلك على مدار ثلاثة أيام، كما تعذر أخذ تعليق من قيادات أخرى قالت إنه لا معلومات لديها عن أي اجتماع سرّي مع سيري.
وقبل عرض ما جاء في المحضر الذي وصل «الأخبار» من مصدر فلسطيني، يمكن التنقل بإيجاز بين مجموعة من التناقضات التي قدمها أبو مرزوق في قضية خطة سيري، علماً بأن تاريخ المحضر يشير إلى عقد الاجتماع الثامن من أيلول الماضي، فيما أعلنت الخطة بعد ذلك بقليل، وتحديداً في السادس عشر من الشهر نفسه، على أساس أنها نتاج اتفاق ثلاثي بين الأمم المتحدة والاحتلال والسلطة الفلسطينية (حكومة الوفاق).
أبو مرزوق نفسه كان قد أجاب «الأخبار» على سؤال بشأن الخطة في الثلاثين من أيلول الماضي (العدد 2407)، بالقول: «لا أدري من اطلع على خطة سيري... من الطبيعي أن الرقابة ستكون مطلباً أساسياً عند الدول الداعمة والاحتلال، لكننا لا نريد إعاقة عملية الإعمار، على ألا تكون أيضاً عملية المراقبة معقدة وتستثني دخول مادة ما». لكنه عاد عبر صفحته على «فايسبوك»، في الأول من تشرين الأول، لينتقد «كل الجهات التي تعترض على خطة روبرت سيري لإعمار غزة»، قائلاً: «خطة سيري التي يتحدث بعضهم عنها ليست جديدة، فهي يعمل بها منذ سبع سنين، بل كل مشاريع الأمم المتحدة سواء إعمار ما تم تدميره في 2008 ـ 2009 أو المشاريع التي تم تمويلها من بعض الدول العربية والأجنبية، تسير بالآلية نفسها». وتساءل في التصريح نفسه: «ما هي المصلحة المرجوة من الاعتراض على أعمال الأمم المتحدة وهي تعمل في هذا الميدان منذ عشرات السنين؟».
بعدما جرى ضجيج كبير ضد الخطة وآلياتها التي تجعل غزة «محاصرة إلكترونيا»، خرجت تصريحات لعدد كبير من قيادات «حماس» تستنكر الخطة وتعتبرها جزءاً من تواطؤ السلطة مع إسرائيل على غزة، ومنهم أبو مرزوق الذي قال في الثالث من تشرين الثاني، عبر صفحته أيضاً، إن حركته لم توافق على خطة مبعوث الأمم المتحدة، واصفاً الكلام عن موافقته الشخصية على الخطة بالكذب. وأضاف آنذاك، أن الخطة «لم تعرض بالمطلق على الحركة بأي صورة من الصور». كذلك أكد أنه لم يصدر أي موقف منه أو من أي مسؤول في الحركة بشأن الموافقة على خطة سيري، مشدداً على أن «حماس» ستسعى مع القوى السياسية والمجتمعية إلى تعديل الخطة.
هي النتيجة نفسها التي وصل إليها كل من عضو المكتب السياسي خليل الحية، والقيادي في الحركة طاهر النونو، بعدما أكدا لـ«الأخبار» (العدد ٢٤٤٥ في ١٥ تشرين الثاني) أن «حماس» لم تطلع على الخطة.
وبعد الاتهام الذي أطلقه عباس، أعلن وزير الشؤون المدنية في السلطة حسين الشيخ «غسل اليدين» من المآخذ على خطة سيري حينما قال، إن «حماس اتفقت مع روبرت سيري ولدينا محضر الاجتماع كاملاً»، ثم خرج المتحدث باسم «حماس» سامي أبو زهري ليرد على تصريحات الشيخ بالقول، إنها «دليل على تورط مسؤولين في السلطة في شرعنة الحصار على غزة»، ورأى أن هذه التصريحات «محاولة لفرض عملية إعادة الإعمار وفق شروط الاحتلال وسيري الظالمة».
إخراجاً للشك من موقعه، فإن الاطلاع على المحضر، الذي لم يتسنّ التأكد من صحته تماماً، يوضح أن سيري كان يبحث مع أبو مرزوق «وجهات نظر» تتعلق برؤية «حماس» لآليات الإعمار المناسبة قبيل عقد الاتفاق الثلاثي مع السلطة والاحتلال، ولم تكن هناك فعلياً «صياغة» لاتفاق مشترك مع الأمم المتحدة وإسرائيل، وإن كانت بعض أسئلة قياديي «حماس» تشير إلى رغبة في دور سياسي للأمم المتحدة.
وذُكر في بداية المحضر أنه اشترك في اللقاء كل من أبو مرزوق وحمد وسيري، ومن طاقم الأخير برت دان وباسم الخالدي. وكان أول سؤال وجهه أبو مرزوق: «نريد أن نفهم من الأمم المتحدة كيف تتعامل مع المتضررين بدون تمييز؟»، لكن سيري ظل يسأله عن مستقبل العلاقة مع «فتح» ونظرة «حماس» إلى حكومة التوافق لأنه لا يستطيع إخفاء «قلقه» من الحديث الدائر في غزة ورام الله، إلى حدّ علق فيه المبعوث الأممي بالقول، إن «هناك الآلاف من الموظفين جالسين في بيوتهم ويقبضون رواتب، وهناك الآلاف من موظفي غزة يعملون ولا يتقاضون رواتب»، معقباً أن «هذا وضع لا يمكن القبول به، بل يجب إيجاد حل له».
لعل ما يفيد في تأكيد المحضر أن سيري اقترح حلّاً جرى تنفيذه لاحقاً، وهي آلية موقتة قدمها الرجل وتهدف إلى «تقديم دفعات مالية للموظفين ضمن دفعة واحدة عن ثلاثة أشهر»، وقبل أسابيع جرى تنفيذ هذا الحل فعلياً وتسلمت غالبية الموظفين المدنيين في حكومة غزة السابقة 1200 دولار لكل منهم. هنا أضاف سيري: «المقترح القائم هو أن تحول قطر الأموال للأمم المتحدة، ثم ترسلها كأموال (كاش) إلى صندوق البريد في غزة كي يتسلمها الموظفون كدفعات مالية وليس رواتب... نتحدث عن نحو 24 ألف موظف هؤلاء مدنيون، أما العسكريون فمن الصعب إقناع الدول المشاركة بذلك، لكننا نريد أن نستوضح منكم هل تقبلون بهذه الطريقة وتتحملون الثلث الباقي الخاص بأفراد الأجهزة الأمنية علماً بأن هذا حل موقت؟».
جاءت إجابة أبو مرزوق على نحو يفيد الإقرار، مكملاً: «هذه مسؤولية الرئيس والسلطة، ونحن على استعداد للبدء في حل الموضوع، لكن يجب الاقتناع بأن الشرطة والدفاع المدني هم من المدنيين وليس العسكريين، لذلك لا بد من ضمهم في سلك الدفعات المالية»، لكن هذه النقطة لم تطبق. أما اللافت، فهو قول المبعوث الأممي، إن «الوضع في إسرائيل أفضل، وهم يدركون أنه من دون حل هذا الموضوع فإن هذا سيثير أزمة كبيرة»، لذلك رأى «أنه إذا تم ضم موظفي غزة إلى السلك الوظيفي للسلطة، ستنتهي المشكلة نهائياً، ومن جهتنا نريد المساعدة في ذلك».
قبل هذا الحديث تدخل روبرت دان، وهو رئيس القسم السياسي في الأمم المتحدة، قائلاً: «نريد لهذه الحرب أن تكون الأخيرة، وهي فرصة لحل كل المشكلات في غزة»، ليرد عليه أبو مرزوق بالقول: «لدينا الاستعداد لحل المشكلات اليوم قبل الغد، لكننا نريد أن نعرف ما هي طلبات إسرائيل بشأن إدخال مواد الإعمار؟». الإجابة من سيري جاءت على نقاط عدة، أولها أن الإسرائيليين ركزوا على أهمية تفعيل دور «التوافق» في عملية إعادة الإعمار، لأن هناك «تغيراً في مواقف الحكومة الإسرائيلية لإعطاء فرصة لحكومة التوافق بشرط أن تمارس السلطة صلاحياتها على المعابر». والنقطة الثانية، وهي محور الاحتجاج في ادعاء أن «حماس» لم تكن على علم بتفاصيل ما سيقدمه سيري، وكان قول الأخير إن الآلية المقترحة ستكون «موقتة»، وستسمح باستيراد مواد الإعمار من الأمم المتحدة والقطاع الخاص، وكذلك يمكن للمصانع أن تطلب الكميات من الجهات التي تملك التصريح بذلك، في إشارة إلى الشروط الأمنية وضرورة الموافقة الإسرائيلية المسبقة.
عارض أبو مرزوق الانتقادات على خطة سيري، لكنه نفى اطلاعه على الخطة لاحقاً


وفق سيري طالب الإسرائيليون بصلاحيات واسعة لحكومة التوافق في غزة

أيضاً، تحدث سيري بوضوح عن أن الأمم المتحدة ستعمل مع السلطة وإسرائيل بالاعتماد على «بيانات ومعلومات موثقة»، مؤكداً أنهم سيراقبون «دخول مواد الإعمار واستخدامها داخل القطاع»، ثم جرى الحديث عن تعهدات بضمان ألا تتدخل «حماس» في عمل الأمم المتحدة أو دخول مواد البناء. كذلك شدد المبعوث الدولي على «احترام النظام الذي سيعلن عنه، ومع القطاع الخاص»، ملمحاً في الوقت نفسه إلى أنه «إذا لم يعجبكم... ربما يكون البديل هو أن تبحثوا عن طرف آخر»، ليأتي الرد من أبو مرزوق على نحو يمدح فيه «الخبرة الجيدة» للأمم المتحدة في عملها في غزة ومشاريعها الماضية، ثم الاستفسار عن كون حماس شكلت أي عقبات سابقاً.
ومن قراءة المحضر، يتضح أن سيري شدد لـ«حماس» على أن الشروط السابقة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها الحصول على الموافقة الإسرائيلية لإدخال المواد، مضيفاً أنه يقدر أن «هذه ليست نهاية الحصار، لأنه لا تزال هناك قيود من إسرائيل، لكنها ستحسن الأوضاع في القطاع وستمنح فرص عمل كثيرة». وانتقل المبعوث الأممي ليعرض بعض المقترحات ومنها أن الاحتلال ينوي توسعة معبر كرم أبو سالم لــ600 شاحنة (وصلت حتى الأيام الأخيرة إلى 500 بعدما كانت 300)، وعرض مقترحات تدرس لفتح معبر إيريز (خاص بالأفراد) لإدخال مواد البناء لأن «نقل المواد من جنوب القطاع، حيث كرم أبو سالم، حتى الشمال سيكلف كثيراً في ظل عدم جاهزية الطريق»، وهذا ما يفتح الباب «لاستيراد مواد من الضفة المحتلة». وبالطبع فإن السلطة تعتمد عادة على الإسمنت الإسرائيلي الأمر الذي يضع علامة استفهام على الاعتراضات على هذه النقطة رغم العلم بها مسبقاً.
قبل نهاية الاجتماع، طلب أبو مرزوق إعطاءه فكرة عن الزمن الذي ستأخذه عملية إعادة الإعمار، فأجابه سيري بأن العملية ستأخذ سنوات، لكن الأمم «تحاول أن تضع أولويات أهمها الكهرباء والماء والمنزل، كما سنعطي أولوية لإصلاح البيوت المهدمة جزئياً ونفكر في أن ندفع للمواطنين كي يقوموا بعملية الإصلاح»، متابعاً: «نحاول بناء ثقة بينكم وبين الإسرائيليين، وسبق أن نقلنا مقترحات من مردخاي حول هدنة طويلة مقابل تطوير البنية الاقتصادية في غزة».
هنا تحديداً، تدخل القيادي غازي حمد ليقول إنه «من المهم البحث في الأفق السياسية وعدم اقتصار الحديث عن إعادة إعمار، لأن استمرار الاحتلال هو السبب في كل الأزمات والحروب المتلاحقة»، مكملاً: «نريد أن ندخل عميقاً في البحث عن مخارج سياسية، كما يمكن عقد لقاءات بين الحركة والأمم المتحدة للحديث حول الأفق السياسي»!


■ لتحميل المحضر أنقر هنا