تحكم مسألة اقتحام المستوطنين باحات المسجد الأقصى اعتبارات ودوافع لا تتصل بالدين اليهودي، أو حق اليهود المزعوم في السيطرة على المكان. وأيضاً مسألة إعادة بناء الهيكل الثالث التي ينادي بها عدد من المستوطنين والمتطرفين لا تتصل هي الأخرى بالدين اليهودي الذي يحرم، للمفارقة، أصل الدخول إلى الحرم، أو تخطّي عتبته بخطوة واحدة!
الذي لا يعرفه كثيرون أن قادة الحراك اليهودي المنادي بهدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه هم في الغالب متطرفون غير متدينين، وينظرون إلى هذه المسألة على خلفية حقد دفين ضد العرب والمسلمين، وهو ما يسمى في الأدبيات الإسرائيلية بـ«القومية» وحق اليهود «كعرق» بالاستيلاء على فلسطين كلها، كذلك لا يحرك هذه المسألة مطلب ديني يهودي، فمن يقف في مقدمة المشجعين على هذه الظاهرة هم أميركيون إنجيليون، أو يهود متعصبون متطرفون وغير متدينين، وأغلبهم أيضاً من أصول أميركية.
وللإيضاح أكثر، فإن المشاهد والصور عن الجماعات والأفراد الذين يقتحمون باحات المسجد بين حين وآخر تشير إلى أنه ليس من بينهم رجال دين يهود، أو من يلتزم بالدين اليهودي، كالحريديم والحسيديم، وغيرهما من المذاهب والطوائف اليهودية على كثرتها.
وما أثار عاصفة حول هذه القضية مؤخراً هو تصريح الحاخام الأكبر لليهود السفارديم، يتسحاق يوسيف، بحرمة الدخول إلى باحات الاقصى، وهي فتوى مبنية وفق التحريم الديني لما يسمى باليهودية «تدنيس مكان الهيكل بنجاسة الميت لدى اليهود»، الأمر الذي زاد عليه الحاخام وجود إمكانات معتبرة جداً لقتل اليهود وإيذائهم في حال اقتحامهم المكان، أي إن الحرمة التي نادى بها يوسيف مبنية على حرمتين مجتمعتين: خطر إراقة الدم اليهودي، وحرمة تدنيس المكان.
غالبية من يقتحم الأقصى علمانيون متطرفون أو أميركيون إنجيليون


لا يستطيع بعض الحاخامات إصدار
فتوى الحرمة خوفاً من ردود الفعل

هذا المنحى تحديداً يفسر صمت الحاخام الأكبر لليهود الأشكناز، الذي لم يدل بأي تصريح مؤيد أو معارض لاقتحام المستوطنين الأقصى، رغم أن صمته يسجل على أنه معارضة سنداً إلى الشريعة اليهودية، من دون إغفال أن الصمت هنا جاء على خلفية سياسية من أجل منع الانتقادات التي سيوجهها المتطرفون إليه، وفي كل الأحوال لا يقوى الحاخام الأكبر للأشكناز على الدعوة إلى اقتحام باحات الأقصى مع وجود «حرمة دينية» تمنع ذلك.
في هذا الإطار، تغيب عن الصورة الأحزاب الدينية اليهودية ورؤساؤها وقادتها ومؤيدوها، مثل «شاس، ويهودت هاتوراة»، وهما الحزبان الأكثر حضوراً لدى المتدينين اليهود. فتحليلات ومشاهد صور الأيام والأسابيع الماضية خلت تماماً من أي موقف أو حراك ميداني مؤيد أو معارض على أيدي هذه الأحزاب، وهذا الموقف مبني على الفتوى الدينية نفسها.
وفي المقابل، لا يخفى أن عدداً من المتدينين اليهود الذين يطلقون على أنفسهم تسمية «متدينين صهاينة» وجدوا من بين الحاخامات من يصدر لهم الفتوى بإباحة الدخول إلى الحرم، لكنهم يبقون أقلية ولا يعبرون عن التوجه العام للحاخامات والمتدينين عامة.
مع ذلك، يمكن إيضاح أسباب الحرمة وفق الفتاوى الصادرة في هذا الإطار ضمن اعتبارات أخرى، منها أن من أهم مصادر النجاسة لدى اليهود «ملامسة جثث الموتى أو الاقتراب منهم»، وخاصة بالنسبة إلى الكهنة المنوط بهم قديماً خدمة «الهيكل»، فإن لامس أو اقترب كاهن من الميت، فإنه يتنجس، وهذه النجاسة تبقى قائمة ودائمة وتنتقل بدورها منه إلى الآخرين لدى مقاربتهم إياه أو ملامسته، ومن الآخرين تنتقل إلى غيرهم، وهكذا...
وبما أن طريقة «التطهير من هذه النجاسة» مفقودة ومتعذرة منذ القرن السادس، فإن كل اليهود باتوا بالتبعية نجسين بها، ويحرم عليهم، تبعاً للفتوى، دخول منطقة «الهيكل» (الحرم القدسي) ما داموا نجسين بنجاسة الميت ولم يتطهروا منها. وللتطهر من هذه النجاسة، ثم إباحة الدخول إلى الحرم، يستلزم إيجاد بقرة حمراء خالصة يذبحها أحد الكهنة في شعائر معقدة، على أن تكون البقرة ذات مواصفات أخرى إضافة إلى كونها حمراء. ويجب أن يجري الذبح خارج منطقة «الهيكل» في «جبل الزيتون» في القدس، وذلك بعد أن يتأكد الحاخامات من مواصفاتها ومطابقتها الشريعة اليهودية، ثم تحرق البقرة ويستخدم رمادها بالرش على الماء الذي يستخدم بدوره لتطهير اليهود النجسين. وبعد الطهارة يمكن لليهودي الطاهر أن يدخل الهيكل ومنطقته.
رغم ذلك، فإن مواصفات البقرة الحمراء صعبة التحقق، ولم تنجح كل الجهود المبذولة لإيجادها ضمن المواصفات المشددة في الشريعة اليهودية، وهذا يعني أنه منذ القرن السادس الميلادي لا يوجد لدى اليهود رماد بقرة حمراء تمكنهم من التطهر من نجاسة الميت. كذلك، لا يمكن لأي كاهن أن يذبح البقرة الحمراء في حال العثور عليها ضمن مواصفاتها، إذ تشترط الشريعة اليهودية أن يكون هو أيضاً طاهراً من نجاسة الميت قبل الذبح، وهذا متعذر وغير موجود، فكل الكهنة الآن هم نجسون، وهكذا نصل إلى دائرة مفرغة لا يمكن الخروج منها.
وبصورة أخرى، كل هذا يعني من ناحية الشريعة اليهودية أن جميع اليهود باتوا نجسين ولا سبيل لتطهيرهم، لذلك يحرم عليهم دخول منطقة «الهيكل»، أي المسجد الأقصى وباحاته.
ومع التدقيق، فإن حرمة دخول اليهودي «المتنجس بنجاسة الميت» محصورة في مكان واحد داخل «الهيكل»، وهو ما يسمونه المذبح حيث كانت تذبح القرابين، وأيضاً فإن اليهود لا يجزمون بمكان وجود هذا المذبح بالضبط مع أنهم يقولون إنه موجود في منطقة الحرم القدسي، ومع فقدان اليقين، وعملاً بالاحتياط الملزم، كانت فتوى حرمة الدخول إلى كل هذه المنطقة بلا استثناء.
وبالعودة إلى أنه لا سبيل لذبح البقرة حتى مع وجودها، لأن الذابح نجس، فلا يوجد إلا حل واحد، هو ظهور المسيح في آخر الزمان، الذي سيفعل ذلك بنفسه، وفق الشريعة اليهودية، لأنه غير متنجس بنجاسة الميت.
يبقى السؤال: هل هذا يعني أن نجاح المتطرفين في السيطرة على المسجد الأقصى، من يهود علمانيين أو مسيحيين إنجيليين يعتقدون بأن الظهور الثاني للمسيح سيكون بعد بناء «الهيكل» الثالث، سيواجه برفض ديني وإسرائيلي رسمي؟ بالتأكيد لا، فكما جرى التعامل مع أصل قيام إسرائيل كـ«دولة يهودية»، وتحولت القضية من حرمة دينية تكاد تكون مجمعاً عليها إلى إمكانية للتعايش معها وفيها، بل دخول مؤسساتها ووزاراتها والخدمة في جيشها، يمكن للسيطرة على الحرم أن تجر إلى التعايش والتأقلم مع هذا الواقع في حال حدوثه، أي تماماً كما جرى التعامل مع هذه الدولة التي ينظر إليها الدين اليهودي، أساساً، على أنها اغتصبت حق المسيح الذي يحق له وحده «إقامة دولة اليهود في آخر الزمان». وإذا كان خمس اليهود في فلسطين المحتلة هم من المتدينين، فإن أربعة أخماسهم علمانيون وينظرون إلى اليهودية باعتبارها عرقاً إضافة إلى كونها ديناً، وهؤلاء لن يتعففوا عن الاستيلاء على الحرم أو تقسيمه إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.




من وراء جمعية «العاد» الاستيطانية؟


تصنف جمعية «العاد» الصهيونية (اختصار: العودة إلى مدينة داود) على أنها إحدى أهم الجمعيات التي تنشط في مجال سرقة أملاك الفلسطينيين، وإعادة إحياء التراث اليهودي المزعوم داخل مدينة القدس المحتلة. ويتركز نشاطها الاستيطاني في قلب سلوان، وهي منطقة أقيمت وفق زعمها على أنقاض «مدينة داود». ربما سيكون مثيراً معرفة أن من بين من يقفون على قيادة وتوجيه هذه الجمعية، ايلي فيزل، الحاصل على جائزة «نوبل» للسلام عام 1986، ويحمل الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية. وفيزل (صورة) صديق مقرب لباراك أوباما وبنيامين نتنياهو، وله تأثير كبير على الأول.أيضاً هناك عاموس يدلين، وهو المسؤول الأسبق لجهاز الاستخبارات «أمان»، ومعهما مسؤولون آخرون في أجهزة الشرطة والحكم المحلي والأحزاب الإسرائيلية، أي إنها ليست مجرد جمعية متطرفة تقف على هامش المشهد الإسرائيلي كما يحلو للإعلام العبري تسويقها.
(الأخبار)