غزة | يبدو أن نهوض المصالحة الفلسطينية الكسيحة على قدميها في طريقه إلى التعسّر مجدداً، فقد أرخت التفجيرات الأخيرة التي استهدفت بيوت كوادر حركة «فتح» ظلالها على أجواء المصالحة المشحونة أصلا. الحدث الأمني الذي كان من المفترض أن يعمل على إذابة الجليد بين «حماس» و«فتح» تجمّد بعدما أعلنت الأخيرة، رسمياً، إلغاء مهرجان إحياء ذكرى الرئيس الراحل ياسر عرفات.
هذا المناخ المتوتر هيأ الأجواء لرفع اصبع الاتهام بوجه طرفٍ بعينه، إثر غسل وزارة «الداخلية» في غزّة (تابعة لحكومة حماس السابقة) يدها من تأمين وحماية المهرجان الذي كان من المزمع تنظيمه يوم غد (الثلاثاء)، فقد تذرّع المتحدث باسم الوزارة، إياد البزم، بعدّة مبررات حالت دون ذلك، أهمّها الخشية من انفلات الأمور وخروجها عن السياق في ظل ما سماه الاحتقان الداخلي والمشاحنات الحادّة بين تياري عباس ودحلان داخل «فتح».
قد يكون ظهور الامتداد الجماهيري لـ«فتح» أحد أسباب الخوف من المهرجان

واستحوذت قضية رواتب منتسبي الأجهزة الأمنية التابعة لـ«الداخلية» على نصيب الأسد من ذرائع الوزارة، إذ قال البزم، يوم أمس، إنّ «منتسبي الأجهزة الأمنية لم يتلقوا رواتبهم منذ تشكيل حكومة التوافق، ولم تعترف الحكومة بحقهم كأجهزة أمنية وتعتبرهم غير شرعيين، فضلاً على وصف تلك الأجهزة بأوصاف غير لائقة». ومن المفارقة أنّه في الساعات الأولى من اشتعال جذوة الغضب الفتحاوي على «حماس» وتحميلها مسؤولية التفجيرات، أصرّت «الداخلية» على تأمين المهرجان، ومنذ ذلك الوقت كان ملف الرواتب، والحديث عنه، معلّقاً.
كل ما سبق يثير مروحةً من التساؤلات عن أسباب تأجيل تلك «المبررات الجاهزة» إلى ما قبل يومين من موعد المهرجان المحدّد، كما يسقط بطريقة أو أخرى مسؤولية «داعش ـ غزة» عن التفجيرات، بل بسبب تصريح «الداخلية»، رأى بعض المراقبين أن «حماس» سقطت في اختبار إبعاد دائرة الشكوك عنها، فكان جديراً بها أن تسيّر المهرجان لتلجم «المجموعات المتطرّفة» إن صحّ نشاطها في كنف القطاع، تماماً كما سحقت جماعة «جند أنصار الله السلفية» عام 2009.
ومن المعروف أن «حماس» التي غادرت الحكومة لا تزال تحكم غزّة بالقبضة الحديدية، وتعرف أجهزتها الأمنية دبيب النمل في كل أحياء وشوارع القطاع، وهو ما يناقض سير عملية التحقيق البطيئة، لذلك يتوجّس المراقبون من تقييد هذه الحادثة الحساسة ضد مجهولين، كما حدث مؤخّراً مع حادثة تفجير المركز الفرنسي.
أكثر ما يخيف السياسيين والفصائل في غزة أن مرور التفجيرات من دون تحديد فاعلها يفتح مرحلةً جديدة من «الفلتان الأمني المنظّم» تحت غطاء قانوني، والهدف توصيل رسائل مبطّنة إلى «فتح» وحكومة الوفاق التي، هي الأخرى، ليست بريئة من ابتزاز موظفي غزّة بورقة الرواتب.
على ضفةٍ مقابلة، تواصل «فتح» حربها على «حماس»، إذ أكد عضو اللجنة المركزية للحركة، زكريا الأغا، في مؤتمر صحافي أمس في غزة، أن «موقف حماس الأخير مساس كبير بسير المصالحة الوطنية، وبما جرى التوافق عليه بين الحركتين خلال لقاءات القاهرة، كما يتناقض كلياً مع ما أعلنته (حماس) في وسائل الإعلام بأنها لن تقف عائقاً أمام إحياء هذه الذكرى».
يأتي قرار «فتح» النهائي بإلغاء المهرجان، بعدما تبيّن أن مسلسل التهديدات الصريحة لقياداتها بالقتل وتفجير ساحة الكتيبة، في حال الاحتفال، لا يزال في أوجه. وهنا أوضحت مصادر في الحركة أن عدّة رسائل موقعة باسم «داعش» وصلت الهواتف النقالة لبعض قياداتها، فيما وصلت أخرى إلى عناصر من حرس الرئيس المنوط بهم مهمة تأمين المهرجان من الداخل.
في المقابل، أكدت «حماس» أن قرار إلغاء «فتح» مهرجان ذكرى عرفات «شأن فتحاوي داخلي لا علاقة للحركة (حماس) به»، داعية إلى «الكف عن المهاترات وكيل التهم وتصدير أزماتها الداخلية (فتح) إلى الغير». وأعرب المتحدث باسم «حماس»، سامي أبو زهري، خلال مؤتمر آخر أمس، عن استهجان حركته قرار إلغاء المهرجان، مشيرا إلى أن بيان «داخلية غزة» بشأن رفع اليد عن مسؤولية تأمين محيط المهرجان جاء لأنه «تم الاتفاق على أن تأمين المهرجان من الداخل هو من مسؤولية فتح، وهو ما يدفعنا إلى استهجان قرار الإلغاء».
بشأن تأخر نتائج التحقيق، قال أبو زهري: «تأخرت استجابة الأجهزة الأمنية التي تعمل بنصف طاقتها نظراً إلى ظروفها الصعبة وعدم تلقي موظفيها أي راتب من الحكومة، وعدم توافر الإمكانات اللوجستية من سولار وسيارات، لكننا لا نزال نبحث عن الجناة».
في المحصّلة، يبدو أن جميع الأطراف تربّحت من وراء التفجيرات وإلغاء المهرجان، وإن كانت تتظاهر بعكس ذلك، فعلى مستوى «فتح» وحكومة الوفاق، خفّ عن كاهلهما تحمّل عبء ملف المصالحة وتبعاته المرتبطة تحديداً بالشؤون المالية، كما قد تنفض «الوفاق» يدها من ملف إعادة الإعمار الثقيل، وذلك باللعب على وتر «المظلوميّة» التي تمارسها «حماس».
أمّا الحركة الإسلامية التي تسيطر على مفاصل حيوية في غزة، فسجلّت نقطة لمصلحتها بالاستفادة من الحادث لفرض معادلة «الأمن مقابل الرواتب»، وذلك في توقيت مفصلي للغايّة، كما نجحت في منع إقامة المهرجان والنزول عند رغبة عدد من عناصرها الذين خلقوا «جوّاً مسموماً» للتمهيد الفعلي لمنع الاحتفال، فيما المتوقع أن المهرجان سيفرض حالة من الاستياء إذا ظهر أن لـ«فتح» امتدادا شعبيا يحافظ على قوته.
في جانب آخر، لا يمكن إغفال التقاط مصر هذه الحوادث لتضييق الخناق على غزّة والاستمرار في إغلاق معبر رفح في وجه الغزيين بذريعة التأكد من وجود نشاط لـ«داعش» في القطاع، والأمر نفسه ينسحب على العدوّ الإسرائيلي الذي يطلق فزاعة «داعش» و«الإرهاب» في القطاع. أما الثابت في كل هذه المتغيّرات التي تجري بوتيرة متسارعة، فهو أن غزّة التي يبيت نازحوها في العراء ستظل رهينة خلافات الأطراف دون إقامة وزن للكارثة الإنسانية القائمة!