... وصار لسنّة العراق ممثلية في واشنطن. الخبر ليس تسريباً ولا شائعة. جاء رسمياً أمس على لسان أثيل النجيفي. ولمن لم يلحظ، هو النجيفي نفسه الذي كان محافظاً للموصل يوم اجتاحتها جحافل "داعش" قبل أن يقال من منصبه بتهمة التعاون مع التنظيم الإرهابي. وهو أيضاً الذي يقود اليوم ما يعرف بـ"الحشد الوطني" الذي يدّعي عزمه على تحرير نينوى والأنبار من "داعش" بدعم تركي وغطاء أميركي... ميداني. قالها بوضوح وعلناً. لقد تم افتتاح المُمثلية "لنقل معاناة أهل السنّة من التهميش والإقصاء إلى المجتمع الدولي". جاء ذلك "بالتعاون مع وزير المالية الأسبق رافع العيساوي". لم يسعَ إلى المواربة، بل تحدث عن الرواية كاملة. رأى، في حديث نقله موقع "شفق نيوز"، أن "إقامة الأقاليم، ويتقدمها الإقليم السنّي" الذي يسعى إليه في غربي العراق، "حق كفله الدستور وهو خيار مطروح"، نافياً سماعه مقترحاً طرحه الجانب الأميركي بـ"إقامة قواعد عسكرية للولايات المتحدة مقابل دعم إنشاء الإقليم السنّي".
تصريح بالغ الأهمية والدلالة لنواح ثلاث: المضمون والتوقيت والسياق. في الأول، عبّر عن اتجاه عملاني يضع مطالب أهل السنّة في غربي العراق موضع التنفيذ عبر تلك الممثلية التي يبدو واضحاً أن مهمتها تنحصر في أمرين: 1) تكريس التقسيم الواقعي للعراق، عبر السماح لمكوّن أساسي من مكوّناته بأن يكون له تمثيل في دولة أجنبية. 2) إيجاد منبر خارج العراق للتعبير عن طموحات ما عاد هناك خلاف بين اثنين على أنها تعبّر عن تقاطع مصالح أميركي ــ تركي ــ سعودي يجد له صدى في الداخل العراقي.
أما من حيث التوقيت، فحدّث ولا حرج. هو يأتي بعد أيام فقط على إعلان السعودية بدء تدريبات لقوات تتبع لما بات يعرف بـ"التحالف الإسلامي" من أجل التدخل في كل من العراق وسوريا. أمر "لا تراجع عنه"، بحسب المتحدث باسم "التحالف العربي" أحمد عسيري. وذلك في ظل سيناريوات تتداولها وسائل إعلامية مقرّبة من عواصم القرار في التحالف المذكور، عن دخول تركي من الشمال و"إسلامي" من الجنوب، عبر الحدود السعودية والأردنية، لطرد "داعش" من غربي العراق. وكل هذا في ظل لازمتين لا ينفك المعنيون عن تكرارهما: مواجهة النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، ومنع "الحشد الشعبي" من دخول نينوى والأنبار.
الإعلان عن الممثلية يأتي بعد بدء تدريبات لقوات تتبع لـ"التحالف الإسلامي" للتدخل في العراق وسوريا

هذا طبعاً من دون الحديث عن مجموعة من الأنباء المتداولة، وبعضها قد بات رسمياً، عن عزم قوات أجنبية على التدخل في هذه المعركة، بينها قوات إيطالية تحت ذريعة حماية "سد الموصل"، وأميركية، أقرّت واشنطن بأن وحدات خاصة تابعة لها قد وصلت بالفعل إلى بلاد الرافدين، وإن كان المتداول في الصالونات السياسية يشير إلى توافد آلاف من القوات التي تعتزم المشاركة الميدانية في المعارك ضد "داعش"، سواء بالمهمات القتالية أو إدارة العمليات، فضلاً طبعاً عن عمليات القصف الجوي المستمرة منذ أشهر.
يبقى السياق، وهو في هذه الحالة مربط الفرس. بات واضحاً، من خلال مجريات العمليات العسكرية على مدى الأشهر القليلة الماضية، وخصوصاً في أعقاب التدخل الروسي وتعزيز الوجود الإيراني في سوريا، ما انعكس تقدماً ميدانياً في مختلف الجبهات، وخصوصاً في حلب ودرعا، أن رياح الميدان تجري بما لا تشتهيه سفن الحلف السعودي التركي الأميركي. بل زاد على ذلك، في أعقاب اعتداءات "داعش" التي ضربت أوروبا (تفجيرات باريس) وسيناء وامتدت لتطال أكثر من بقعة في العالم، أن هذا التنظيم بات يشكل تهديداً للغرب بشكل عام. وإن كان هذا الغرب، بمعية الاستخبارات التركية والسعودية، قد نجح على مدى العامين الماضيين في استخدام هذا التنظيم من أجل الضغط على حلف الممانعة في محاولة انتزاع تنازلات منه في أكثر من ملف، من دون جدوى، إلا أنه وجد نفسه في نهاية المطاف أمام معضلة من خيارين أحلاهما مرّ: إما ضرب "داعش" والسماح للتحالف المدعوم من إيران بالحلول مكانه في المناطق التي يسيطر عليها، أو التسليم بخسارته أمام هذا الحلف عبر إبرام تسوية سياسية معه.
وبما أن كلا الخيارين غير منطقيين، من وجهة نظر الحلف الغربي، ونظراً إلى كون أي محاولة أجنبية لضرب "داعش" والحلول مكانه كانت ستعطي نتيجة عكسية، بتقوية التنظيم الذي سيكون في هذه الحال يخوض حرباً دينية مشروعة في مواجهة "حملة صليبية" جديدة، كان العمل على ابتداع خيار ثالث، تمثل على ما تبين في وقت لاحق في تأسيس "حلف إسلامي" يتولى هذه المهمة: ضرب "داعش" وإحلال قوات إسلامية في مكانه تنزع عن التنظيم كل مشروعية يمكن أن يدّعيها للقتال.
بل أكثر من ذلك. يوفر هذا "الخيار الثالث" حلاً للمعضلة التي ولّدت "داعش" وأُشعلت المنطقة في الأساس من أجل تحقيقها: قطع المقاومة في لبنان، ممثلة في حزب الله، عن عمقها الاستراتيجي المتمثل في إيران.
من هنا، يصبح ممكناً فهم كل الخطاب الذي رافق حملات تطهير المناطق العراقية، ومجريات المعارك في سوريا: في الأولى، العمل على حل "الحشد الشعبي"، وفي الحد الأدنى الحؤول دون مشاركته في تحرير نينوى. وإحلال قوات أميركية وكردية في المناطق التي يتم تحريرها من "داعش" في سوريا. كذلك يصبح ممكناً فهم تكتل المجموعات الحليفة لكل من السعودية وتركيا في العراق، تحت عنوان الدفاع عن "مظلومية أهل السنّة". بل تصبح منطقية كل تلك الجهود التي تستهدف إقامة حلف إستراتيجي بين كل من السعودية وتركيا ومحاولة ضم إسرائيل ومصر إليه.
كثيرة هي السيناريوات التي تحفل بها وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وتعبق الأروقة الرسمية العراقية بأكثر منها. إلا أنها كلها تجمع على أمر واحد: قوات إسلامية تدخل العراق، تدفع المقاتلين الأجانب باتجاه سوريا وتفرض على العراقيين منهم نقل البندقية من كتف إلى أخرى، على أن تتلوها لائحة مطالب سنية، إذا قبلت بها بغداد، تكون قد غيّرت اصطفافها الجيواستراتيجي وأعادت الولايات المتحدة وتركيا والسعودية إلى عاصمة الرشيد. وإن رفضتها، يكون هذا الرفض ذريعة للمطالبة بحكم ذاتي في غربي العراق، يحاكي الإقليم الكردي في الشمال، ويجري تشكيله بحماية دولية.
ويبقى السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه، بناءً على هذه التنبّؤات: هل سيقف المحور الآخر متفرجاً؟ الإجابة رهن الأسابيع المقبلة.