عامان وشهران مضت منذ أن حطت الحرب رحالها في عاصمة الشمال السوري، حلب. وإذا كان الأمل هو عنوان العام الأول، والصبر عنوان الثاني، فإن اليأس يبدو العنوان الأبرز منذ دخول المدينة عامها الثالث في ظل الحرب. فسكان المدينة التي اعتادت عبر تاريخها الطويل استعادة توازنها وألقها سريعاً بعد الكوارث، ما عادوا مستعدين للمراهنة على نهاية مرتقبة لكارثتهم الراهنة.
ندخل المدينة بعد رحلة طويلة، لكنها باتت معتادة، فتستقبلنا بمشاهد الدمار، شأنها في ذلك شأن كل المدن السورية التي زارتها آلة الحرب. أطلال المباني التابعة لحي صلاح الدين، والمطلة على أوتوستراد الحمدانية لا تكفي لتُنبئ بحجم الدمار في الأحياء الشرقية (الواقعة تحت سلطة المسلحين).
روجّت بعض الأصوات لفكرة أن لا خلاص لحلب إلّا على يد أردوغان
والغسيل المنشور على بعض شرفات المباني الأقل ضرراً، ليس بالضرورة دليلاً على تشبث السكان بالحياة، بل هو في واقع الحال إخطارٌ بأنّ أصحاب تلك البيوت عدموا الحلول التي تتيح لهم العيش في أماكن أخرى بكرامتهم، فاختاروا العودة. لا يثنيهم عن ذلك غياب مقومات الحياة، من كهرباء وماء وسواها، فهذه قد تحولت إلى ترفٍ لا يحلم بتوافره على نحو دائم حتى سكان الأحياء الغربية التي ما طالها من الخراب إلا القليل. وفي هذه الأحياء كانت جولة يومنا الأوّل.

توطين الأزمات

الأزمات الخدمية الكثيرة التي عرفتها المدينة لم تعُد عابرة. وبدلاً من أن تبحث الحكومة السورية عن حلول جذرية، اعتمدت على حلولٍ توَطّن تلك الأزمات. فلحل مشكلة انقطاع مياه الشرب المتكررة، حُفرت الآبار، وبدلاً من البحث عن حلول جذرية لانقطاعات التيار الكهربائي، كُرّست ظاهرة المولدات الضخمة التي يبيع أصحابها التيار في معظم الشوارع والأحياء، بحيث يراوح سعر «الأمبير» الواحد بين 500 و1000 ليرة سورية أسبوعياً، وتبعاً للمستوى الاقتصادي للمناطق والأحياء. تبدأ فترة التشغيل اليومية منذ السادسة مساء وتنتهي منتصف الليل. الحكومة، ممثلةً بالمحافظ ومجلس المدينة، رأت في تأمين المحروقات لأصحاب المولدات بالسعر النظامي «خدمةً» للمواطن الذي كاد ينسى نعمة «الكهرباء الحكومية». يضحك الصيدلاني أحمد، ويقول لـ «الأخبار»: «حتى بهي القصة أذونا بدل ما ينفعونا». ويضيف موضحاً: «قبل قيامهم بهذه الخطوة، كان أصحاب المولدات يشترون المازوت من السوق السوداء بسعر يتجاوز الـ 150 ليرة لليتر الواحد، وحين وفّرت المحافظة المازوت لهم بالسعر النظامي (60 ليرة) لم تُلزمهم خفض التعرفة التي يتقاضونها مقابل الأمبيرات. واليوم بعدما ارتفع سعر المازوت النظامي إلى 80 ليرة، سارع أصحاب المولدات إلى رفع السعر بمعدل يراوح بين 100 و200 ليرة للأمبير الواحد، إضافة إلى خفض ساعات التشغيل اليومي ساعةً أو ساعتين».

أسواق مزدحمة... ولكن

منذ أن قلبت الحرب الموازين رأساً على عقب، فقدت الأسواق التقليدية أهميّتها الاقتصادية، إذ يقع معظمها في أحياءٍ وسط المدينة، تحولت إلى خطوط تماس، مثل باب جنين، باب الفرج، العزيزية، والتّلل، وسواها. كذلك خرجت أسواق المدينة القديمة من الخدمة نهائياً، بعدما تحولت إلى ساحة حرب، تتبادل الأطراف السيطرة عليها، واحترقت أجزاء واسعة منها. الأمر الذي ينطبق أيضاً على المراكز التجارية (المولات) الكبرى الواقعة على أطراف المدينة، التي باتت أيضاً خطوط تماس، لكنّ الحلبيين الذين اشتهروا بابتكار الوسائل البديلة حين يتعلق الأمر بالعمل والتجارة، سرعان ما أقاموا أسواقاً في معظم الأحياء الغربية، البسطات قوامها ويتوافر كلّ شيء فيها. من المأكولات بأنواعها، إلى الأدوات الكهربائية، مروراً بالملابس والمفروشات، وليس انتهاءً بأحدث أنواع الهواتف الخلوية والحواسب المحمولة («لابتوب»، «تابليت»...). ورغم أن الازدحام يبدو كبيراً، غير أن حركة البيع والشراء باتت في أسوأ أحوالها كما يؤكدُ معظم أصحاب البسطات في شارع الأعظمية. أمام بسطة كبيرة يقف عبد القادر، الذي كان سابقاً صاحب مصنعٍ ضخم لإنتاج الشراشف والمناشف، وما شاكَلها. «بدأ الأمر حين استطعت إنقاذ بضائع مستودعين من مستودعاتي. كنت أظنّها مرحلة عابرة، ثم عرفت أنها ستستمر إلى أن يأتي الموت في أي لحظة». لا يوافقُ الرجل على اعتبار كلامه ضرباً من التشاؤم، يقول والابتسامة لا تفارق وجهه «عن أي تشاؤم تتحدث يا رجل؟ انظر حولك، هل من حال أسوأ من هذا؟ قل إنها واقعية، لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع نبأ وفاة أحد معارفنا، إن لم يكن من جراء تفجير أو قذيفة أو طلقة قناص، فبسبب جلطة مفاجئة. القهر أيضاً أحد أسلحة الحرب».

في انتظار «داعش» أو أردوغان!

مع انطلاق معركة عين العرب (ريف حلب الشمالي) هيمن الترقب على الشارع الحلبي. يرى الكثيرون هنا أن تمكن تنظيم «الدولة الإسلامية» من حسم المعركة لمصلحته سيكونُ كفيلاً بتوجيه بوصلته إلى مدينة حلب. «إذا حصل ذلك فنحنُ على موعدٍ مع فصل جديد وطويل من فصول الموت. متطرفو داعش يعدون سكان الأحياء الغربية كفاراً، ويحسبوننا على النظام. شأنهم في ذلك شأن جميع المجموعات المسلحة»، يقول محمّد، الرجل الخمسيني، صاحب صالون الحلاقة، لكن، هل ستكون السيطرة على المدينة بهذه البساطة؟ يجيب الرجل: «لم نعد نعرفُ شيئاً، لقد تمكنوا من السيطرة على معظم الأماكن التي هاجموها، كما أن وصولهم إلى مشارف المدينة سيجلب معه الطيران الأميركي. وهو ألعنُ من داعش». يعترض نادر، أحد زبائن الصالون، والعاملُ في صيانة الهواتف الخلوية: «في حلب الوضع مختلف، الجيش موجودٌ وسيحمي المدينة. باستطاعته ذلك»، لكن محمّد يرد: «ربما كان باستطاعته، لكن أصحاب الأمر لا يريدون. لو أرادوا لسيطر الجيش على كامل المدينة منذ زمن طويل. أظنهم نسوا وجود حلب على الخريطة». اللافتُ، أنّ سماعنا لوجهات نظر شبيهة بهذه قد تكرّر ثلاث مرات خلال يوم واحد. الأمر الذي رأى فيه علاء، الطالب في كلية الآداب «جزءاً من حرب نفسية جديدة». توافق زميلته سهى على الفكرة، وتضيف: «في الآونة الأخيرة راحت بعض الأصوات تروّج لفكرة مفادُها أن لا خلاص لحلب إلّا على يد أردوغان». توضح الشابّة أن «مروّجي هذا الكلام يريدون غرس بذور فكرة الانفصال عن الدولة السورية لدى أبناء المدينة، والمؤسفُ أن اليأس يبدو تربةً صالحةً لاحتضان هذه البذور».