ليس مفاجئاً أن يلقى القرار الإسرائيلي ببناء مئات الوحدات الاستيطانية، في نطاق شرقي القدس، ردود فعل دولية مستنكرة في هذه المرحلة، وخاصة من واشنطن أو الاتحاد الأوروبي. لكن مهما «تفنّن» مسؤولو الدول الغربية في صياغة العبارات المستنكرة للخطوة الإسرائيلية، تبقى الحقيقة التي يعرفها كل فلسطيني وعربي، وهي أنه لولا الدعم الذي تلقاه إسرائيل من هذه الدول، ولولا الحصانة والحماية اللتان توفرهما لها، ما تجرأت وأقدمت تل أبيب على الخطوات الاستيطانية والعدوانية.

اطمئنان إسرائيل إلى السقف الذي يمكن أن تبلغه ردود الفعل الدولية، ومعها العربية، وحتى من السلطة الفلسطينية، يسمح لرئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو بالردّ على المواقف الانتقادية، وهو قال بوضوح يوم أمس: «سنواصل البناء في القدس، عاصمتنا الأبدية».
وفي الوقت الذي يتبادل فيه الطرفان، الإسرائيلي والغربي، الاتهامات بالبعد عن فهم واقع الشرق الأوسط، يؤكد نتنياهو مرةً أخرى أن الانتقادات الموجهة إلى إسرائيل «هي التي تبعد السلام، وأنها بعيدة كل البعد عن الواقع»، مفسراً ذلك بالإشارة إلى إن هذه المواقف «هي التي تشجع الآمال الوهمية عند الفلسطينيين».
أرادت إسرائيل القول إن السلطة موجودة في الأقصى بالسماح للحمدالله بزيارة المسجد

هذا يعني بوضوح أن المطلب الإسرائيلي، في هذه المرحلة، بات يرى ضرورة مصارحة المراهنين على التسوية من الشعب الفلسطيني بأن دورهم بلغ الحدود المرسومة له، وينبغي عليهم ألا يتجاوزوه، وهو ما يعني، إسرائيلياً، أن عليهم التسليم بالأمر الواقع الذي فرضته السياسات الاستيطانية منذ اتفاق أوسلو على الأقل.
ولعلّ الأهم أن مواقف نتنياهو ومعه معسكر اليمين وحتى المحسوبون على معسكر الوسط، لا تنطلق من ردود فعل انفعالية، بل هي جزء من خطة تهدف إلى تأسيس منطق يرى أن على الدول الغربية قياس الأمور والمواقف عبره. لذلك لا يقتصر الرد الإسرائيلي على رفض الانتقادات الغربية، بل يعمد إلى تأصيل الموقف العبري وفق مقاربة ترى «مثلما يبني الفرنسيون في باريس والإنكليز في لندن، فإن الإسرائيليين يبنون في القدس، وسنستمر في البناء داخل القدس».
وتعني الرؤية السابقة أن المنطق الذي تستند إليه الدول الغربية في انتقاداتها بات غير ذي صلة، وخصوصاً أن القدس المحتلة ومناطق أخرى عدة في الضفة غير خاضعة للمساومة من منظور إسرائيلي، وعلى ذلك ينبغي أن تكون المواقف.
مواقف نتنياهو جاءت خلال افتتاح ميناء أسدود، الذي فازت شركة صينية ببنائه، وفي هذا الشأن، رأى رئيس حكومة الاحتلال أن هذه الخطوة «تعبير آخر عن توثيق العلاقات بين الصين وإسرائيل»، مضيفاً: «نحن سعداء بالتعاون الاقتصادي مع الصين»، ويبدو أنها خطوة تعكس توجهاً إسرائيلياً نحو الانفتاح على الدول الآسيوية العظمى لأسباب سياسية واقتصادية.
وفق ما تقدم، لا تعود الكثير من المواقف الإسرائيلية، التي تثير التساؤل للوهلة الأولى، موضع استفهام، ومنها اعتبار نتنياهو أن الضغوط الدولية موجهة نحو إسرائيل من أجل تقديم المزيد من التنازلات، من دون مقابل ومن دون أمن! الأمر نفسه ينسحب على موقفه القائل بـ«رفض التنازل عن مطالبنا من أجل السلام وأوّلها الأمن»، مؤكداً أن «إسرائيل لن تفقد الأمل بالسلام، لكنها لن تتعلق بآمال لا طائل منها».
في السياق نفسه، يأتي احتجاج السفير الإسرائيلي لدى واشنطن، رون ديرمر، المقرّب من نتنياهو، على اعتبار الرئيس الفلسطيني محمود عباس «صانع سلام»، وفق ما نقلت صحيفة «هآرتس» العبرية. وبرغم آلاف الشهداء والجرحى المدنيين خلال العدوان الأخير على غزة، يصف ديرمر الموقف بأنه «لا يوجد أي جيش في التاريخ (الجيش الإسرائيلي) بذل جهوداً كبيرة للغاية من أجل إبعاد مدنيي الجانب الآخر عن الخطر».
أيضاً، مع كمّ الانتقادات التي توجهها حكومة نتنياهو إلى السلطة الفلسطينية ورئيسها، فهي تواصل من جهة أخرى توظيفها واستثمارها في ما تراه مصلحة إسرائيلية، وهذا ما فعلته بعد الحرب على غزة. وبمعنى آخر، فهي عندما سمحت لرئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمدالله، وقادة جهازي المخابرات والوقائي، بزيارة المسجد الأقصى أول من أمس، فإنها تهدف إلى محاولة تهدئة الأمور والتقليل من تأثير «حماس» هناك، وفق ما كشفت القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، التي زادت بأن هناك رغبة في إعطاء إشارة إلى أن السلطة موجودة في الأقصى أيضاً.
من جهة أخرى، ذكرت «هآرتس» أن القرار المصري بإقامة منطقة عازلة مع قطاع غزة، «ليس خطة جديدة»، بل هو اقتراح إسرائيلي يعود إلى عام 2004، عندما أعلن الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، أن الهدف منه «فصل رفح الفلسطينية عن رفح المصرية، ومنع إمكانية حفر الأنفاق بين الجانبين».