حيفا | رحلت فاطمة الهواري عن قرية ترشيحا الواقعة في الجليل الأعلى داخل فلسطين المحتلة، وهي تُردّد "لن نغفر، ولن نُسامح". الهواري كانت الناجية الوحيدة من أفراد عائلتها بعدما قصفت طائرات الاحتلال القرية التي رفض مقاوموها الاستسلام.

من المفارقات العجيبة، أنّ أحد الطيّارين الذين قصفوا ترشيحا، إيبي ناتان، تحولّ بين ليلة وضحاها إلى «داعية سلام» برغم تطلخ يديه بدماء شهداء ترشيحا، أو كما يُسّمونها "عروس الجليل". هذا "الجلّاد" زار الضحية المقعدة طالباً السماح، لكنّ فاطمة أبت أنْ تغفر له، ولا سيما أنه قتل أفراد عائلتها وحوّلها إلى مقعدة.
يوم الجمعة الماضي، أحيت ترشيحا الذكرى السادسة والستين لصمودها كآخر قرية لم تسقط إلا بعد ستة أشهر من إعلان قيام إسرائيل. الحدث بات تقليداً في هذه القرية الفلسطينيّة للسنة التاسعة على التوالي، وأتى هذا العام تحت شعار "أينما كنت أنا ترشيحاني"، وفي موازاة ذلك، أحيا التراشحة في مخيم برج البراجنة في بيروت هذه المناسبة، ولسان حالهم يقول: "العودة أهّم من الدولة".
تقول الناشطة، مريم شريح، من ترشيحا، إن "آباء إسرائيل راهنوا على الزمن لينسى أبناء شعبنا وطنهم وحق العودة إليه، لكنّ الرياح جرت بما لا تشتهي الصهيونيّة". شاركها الرأي باسل طنوس، ابن القرية وأحد المُنظّمين ليوم ترشيحا، بالقول: «ورثنا ذاكرة الأجداد بكل تفاصيلها... حتى شكل غلقة عقدة البيت نعرفها، وعدد وأنواع الشجرات المزروعة في حوش البيت»، وأضاف: «تناقلنا التفاصيل، وعشنا مشاعر الموجودين في المخيمات والشتات».
يستذكر الشباب هنا تفاصيل ما جرى بعدما أعلن بن غوريون تأسيس إسرائيل في أيار 1948، فقد كانت ترشيحا خارج الصندوق تُدافع عن نفسها برغم غياب التكافؤ في القوّة العسكريّة. سقط الشهداء ورفضوا الاستسلام، واستمرّت المعارك بين المُقاومين والاحتلال عدّة أشهر لم يتمكّن خلالها الأخير من إخضاع المُقاومة التي أوقعت العديد من القتلى في صفوفه.
مع إصرار التراشحة، لجأ الاحتلال إلى استخدام المُقاتلات الحربيّة لاحتلال القرية وإخضاع سكّانها، وهو المبدأ نفسه الذي يُواصل انتهاجه حتى اليوم. وبعد مرور نصف سنة، وتحديداً في الثامن والعشرين من تشرين الثاني سقطت ترشيحا.
دخل إليها جنود العدو وهم يحملون الحقد والكراهية وكميّة كبيرة من العتاد العسكريّ. عاثوا في القرية قتلاً، ونفّذوا عمليات الإعدام لترويع الناس، حتى سجل أن ترشيحا آخر قرية سقطت في فلسطين. يقول من بقي من كبار القرية إن عدد سكّانها كان نحو خمسة آلاف نسمة في 1948، وإنها اشتهرت بصناعة السكاكين، وعُرفت بحرفييها ومهنييها في جميع المجالات.
أما اليوم، فظلّ بضع مئات لينقلوا الرواية الشفهيّة من جيل إلى آخر، فيما السواد الأعظم هُجّروا قسراً إلى لبنان وسوريّا. ووفق المعطيات الرسميّة التي أعدّها أبناء ترشيحا، فإنّ عدد التراشحة في العالم يصل إلى سبعين ألفاً غالبيتهم يُقيمون في برج البراجنة، وفي مخيم النيرب في سوريّا.
في سياق متصل (الأخبار)، اعترف رئيس إسرائيل، روفين ريفيلن، بما وصفه "أخطاء في الماضي والحاضر ارتكبتها إسرائيل تجاه السكان العرب" الذين دعاهم الى الهدوء.
واختار ريفلين، أمس، زيارة بلدة كفرقاسم لمخاطبة فلسطينيي الـ48، مشاركاً في إحياء ذكرى مقتل العشرات منهم في مثل يوم أمس من عام 1956 على أيدي عصابات يهودية. وقتل في تلك المجزرة 47 فلسطينياً، وكفرقاسم قرية قريبة من تل أبيب.
ورئيس إسرائيل تعتبر مهماته بروتوكولية وشرفية، لكنها المرة الأولى التي يشارك فيها رئيس إسرائيلي في هذه المناسبة. وقال ريفلين: "أنا هنا لأقول مجدداً إن جريمة بشعة وقعت هنا، وجئت في هذه الأيام الصعبة لمد يدي لليد التي مددتموها ولأقول إن هذه الأيام الصعبة تهدد بإسقاطنا جميعاً في حمام من الدمار والآلام".