تونس | بإغلاق مكاتب الاقتراع مساء أمس، يكون التونسيون قد أنهوا بنجاح ليس الموعد الانتخابي الثاني بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي فقط، بل أنهوا كذلك المرحلة الانتقالية التي تعيشها البلاد منذ 14 كانون الثاني ٢٠١١، التي أُجريت خلالها انتخابات 2011 وكُتب دستور جديد للبلاد وعُلّق العمل بدستور سنة ١٩٥٩.

خلال السنوات الثلاث الماضية، عاشت تونس مرحلة صعبة، أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، اذ ارتفع معدل الفقر والبطالة وانهارت العملة (الدينار) وتفشى التهديد الإرهابي وتراجعت الخدمات والإدارة واحتل التونسيون النسبة الأولى في عدد «الجهاديين» في سوريا والعراق، وانهارت صورة البلاد التي كانت إلى وقت قريب نموذجاً للانفتاح والاعتدال والتنوير ومقاومة الأمية وحرية المرأة.
خلال السنوات تلك، حكم الإسلاميون ("حركة النهضة") عامين، ليصبح السؤال الأساسي للتونسيين: كيف يمكن استرجاع بلادنا؟ وهل من أجل ذلك قامت «الثورة»؟
ولم يكن أمام التونسيين وهم يرون بلادهم تنهار إلا المضيّ نحو الانتخابات برغم كل الصعوبات والعراقيل ومحاولات بث الفتنة بينهم، التي عمدت إليها بعض الأحزاب التي بنت مشروعها الأساسي على «شيطنة» جزء من التونسيين. وبرغم ذلك، انتصرت ثقافة الحوار في النهاية، إذ سقطت حكومة "الترويكا" الثانية (برئاسة علي العريض) عبر الحوار الوطني، كما أُصدر دستور وفيّ للروح التونسية ومكاسب دولة الاستقلال، وتضمن الدستور فصولاً توزع السلطة بين الرئاسة والحكومة والبرلمان منعاً لعودة الاستبداد، فضلاً عن إقامته مؤسسات تضمن حرية الصحافة واستقلالية القضاء ومحكمة دستورية تراقب الجميع.
ما حدث في تونس كان سيضيع، وكانت البلاد ستتحول إلى «صومال جديد» لولا الانتخابات التي انتهت أمس في مرحلتها البرلمانية في انتظار الانتخابات الرئاسية يومي ٢٣ تشرين الثاني و٢٨ كانون الأول. فقد كان المسار الانتقالي مهدداً بخطر "الإرهاب الأسود" الذي ضرب في أكثر من مدينة تونسية في الجنوب والشمال والساحل والوسط. وآخر العمليات الاجرامية كانت في ضواحي العاصمة قبل ساعات من الانتخابات. وعملت الخلية الإرهابية المعروفة بـ«كتيبة عقبة بن نافع» عبر بيانات وفيديوات على تخويف التونسيين من الانتخابات لـ«تأبيد» وضع الفوضى وضعف الدولة. ومع ذلك أقبل التونسيون للاقتراع بأعداد محترمة، برغم أنها أقل حماسة من الانتخابات الماضية، وهذا يفسره الاحباط الذي عاشه التونسيون بسبب عجز «الترويكا» عن إدارة الدولة.
ويُحسب نجاح الانتخابات البرلمانية لحكومة مهدي جمعة، التي وفرت كل الإمكانات لإنجاح الرهان الانتخابي، وهو الأمل الأخير للتونسيين وللعرب أيضاً. وتملك تونس مقومات النجاح في بناء تجربة ديموقراطية بما لديها من نسب التعليم العالية، وصون حرية المرأة وحداثة المجتمع واقترابها من أوروبا وإرثها الاصلاحي، الذي يعود إلى عشرات السنين منذ دستور القرن التاسع عشر. وهي أمور تجعل من البلاد قادرة على أن تكون نموذجاً ناجحاً، وخصوصاً أنها لا تعاني مشاكل طائفية أو مذهبية أو عرقية.
دولة الاستقلال التي بناها الزعيم الحبيب بورقيبة (1903 ـ 2000) حققت مكاسب كثيرة في مستوى تحديث المجتمع، لكنها فشلت في الديموقراطية، التي فشل فيها أيضاً الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وأزاح بن علي سلفه، الزعيم التاريخي، عام ١٩٨٧ ووعد التونسيين بتحقيق الديموقراطية لكن ذلك لم يحدث ولم يغادر الحكم إلا بعد اضطرابات واحتجاجات هزت البلاد من الشمال إلى الجنوب.
الشارع التونسي اليوم يتطلع إلى برلمان يمثل حكومة تحقق له ما حلم به من كرامة وتنمية وعمل وحرية بعد فشل أحزاب «الترويكا» الثلاثة، «النهضة» و«المؤتمر» و«التكتل»، في تحقيق أي مكسب للعاطلين من العمل والفقراء والجهات المقصية من التنمية، وهذا سر تراجع شعبية هذه الأحزاب الذي يتوقع أن يكون واضحاً في النتائج الرسمية التي ستعلن خلال ساعات.
لكن نجاح التجربة التونسية لن يقتصر على الانتخابات فقط، فهناك تحديات جديدة تواجه تونس وأهمها مدى اندماج الإسلاميبن في الحياة السياسية وتخليهم عن خطاب العنف والتكفير وتهديد مكاسب النظام الجمهوري وقطعها مع الإرث «الإخواني»، وكذلك مدى قدرة الحكومة الجديدة على مقاومة شبكات التهريب التي دمرت الاقتصاد التونسي، إذ أصبحت السوق الموازية تحتل نصف النشاط الاقتصادي. ومن بين التحديات أيضاً، تبرز مسألة قدرة الحكومة على معالجة ملف تنمية الجهات الداخلية ومقاومة الفقر والتلوث البيئي وإدماج العائدين من جبهات القتال مع «داعش» و«القاعدة» في المجتمع من جديد وإقناعهم بالتخلي عن ثقافة «الجهاد». أما الأولويات التي تنتظر الحكومة الجديدة، فهي الأمن والاقتصاد وهيبة الدولة. وستكون نتائج الانتخابات البرلمانية محدِدة لشخصية الحكومة الجديدة وطبيعتها ومدى شعبيتها في الشارع.
نجح أمس التونسيون في أن يضعوا الخطوة الأولى في مسار طويل لإنقاذ بلادهم من الفوضى ومخاطر الصوملة والأفغنة، لكن المسار ما زال طويلاً وقد يكون صعباً أيضاً.