من «أفتى» بأن الحرب المزعومة ضد «داعش» في العراق ستشكل مدخلاً لإعادة صياغة الحكم في بلاد الرافدين؟ لا يأتي السؤال من عدمٍ، فهناك ترويج فعلي وعملي لذلك، منذ المداخلات الأولى للرئيس الأميركي، باراك أوباما، إثر سقوط مدينة الموصل في بداية شهر حزيران الماضي، فيما تُعتبر قطاعات في الصحافة الأميركية المروج الأول لهذا الخطاب.
يرسم ذاك الخطاب لنفسه خطاً بيانياً واضحاً. ينطلق من فرضية أنه بعد الخروج الأميركي من العراق عام 2011 دخلت البلاد في أزمات سياسية خلفيتها طائفية وسببها الأول سوء إدارة رئيس الوزراء نوري المالكي للبلاد. ويَعتبر أن سقوط الموصل وما تلا ذلك يعكس أولاً فشل المالكي في إدارة البلاد وما أنتجه من إحباط سياسي لدى العرب السنّة والأكراد.
بالأمس، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تقريراً له دلالاته في هذا الصدد. يتميز التقرير في أنه يذهب إلى نطاقات جديدة، فهو يرى أن بعض منتقدي رئيس الوزراء حيدر العبادي محبطون بسبب «مقاربته باتجاه السنّة والأكراد، ويقولون إنه من خلال سعيه إلى اعتماد مواقف أكثر تصالحية وأقل طائفية مقارنة بسلفه (المالكي)، يجازف (العبادي) في التخلي عن نظرائه الشيعة». ويرى الكاتب، كيرك سمبل، أن مواقف العبادي «التصالحية» راقت «العديد من القيادات السنية».

ويطيل تقرير «نيويورك تايمز» في عرض «محاسن» حاكم بغداد الجديد، الأمر الذي يفرض طرح عدد من الإشكاليات.
تتمحور أبرز إشكالية في هذا المجال حول مفهوم النظام السياسي في العراق الذي أنتجته فترة الاحتلال، والذي كان نتاج صراع خفي بين الإرادة الأميركية ـ الخليجية والقوى الإقليمية الأخرى. من يقرأ الدستور العراقي ويبحث في توزيع القوى ضمن النظام السياسي بين ثلاثة كيانات (الشيعة، العرب السنّة، الأكراد)، يقف عند حقيقة واحدة، هي أن عرّاب النظام العراقي (الأميركي) صنع نظاماً تصعب السيطرة عليه إلا بوجود حَكَمٍ. وبالتالي ربما، كما يقول البعض، كان الأميركيون يدركون عند خروجهم عام 2011 أنهم سيعودون عبر طاقة أزمة حكم ستتفاعل يوماً ما في البلاد.
وليس الموضوع من باب الدفاع عن نوري المالكي وفريقه الحاكم، لكن رئيس الوزراء العراقي السابق شكل في لحظة سياسية معينة العقبة الوحيدة أمام تلك السياسات. هو حاول، مستفيداً من خلط الأوراق الإقليمي الناتج من خروج الاحتلال عام 2011، إعادة بلورة آليات الحكم في العراق، وكاد مشروعه ينجح عقب اكتساح ائتلافه الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة، أي قبل هجمات «داعش» بأسابيع قليلة. وشكل الاشتراط الأميركي للتدخل ضد تمدد «داعش» في العراق، والقاضي بإزاحة المالكي أولاً، دليلاً واضحاً على الآليات التي تحدد سياسة واشنطن العراقية.
تعرض العراقيون لابتزاز أميركي فاقع، وهم يراقبون سقوط مساحات واسعة من دولتهم. ليس في هذا الكلام استعادة لمرحلة ولّت، فالفكرة واضحة: قبل أشهر مهّدت «أزمة داعش» الأرضية للعودة الأميركية وإطاحة مشروع حكم جديد في العراق، وبناءً عليه، فإن السؤال اليوم هو معرفة ماذا يريد الأميركيون من الحديث الأخير المتصاعد عن تهديد بغداد واقتراب سقوط محافظة الأنبار بيد التنظيم المتطرف؟
قبل يومين، قال رئيس الأركان المشتركة للجيش الأميركي، الجنرال مارتن ديمبسي، في مقابلة مع «CNN»، إن الولايات المتحدة لديها «استراتيجية للانتصار» على تنظيم «داعش»، مشيراً إلى أن هناك احتمالات للاستعانة بقوات برية في المعركة في كل من سوريا والعراق. وقالت الشبكة الأميركية إن ديمبسي «أقر بأن القوات العراقية، التي تخلى بعض أفرادها عن مواقعهم أمام هجمات مسلحي داعش، ما زالت بحاجة لمزيد من التدريب». ويترافق الحديث الأميركي مع انبراء الحكام الجدد في العراق إلى التأكيد في كل مناسبة أنهم يرفضون التدخل الأجنبي في بلادهم، علماً مثلاً بأن التدخل الجوي في سوريا كانت ذريعته الفعلية أن تنظيم «داعش» في سوريا بات يشكل خطراً على الأمن القومي العراقي، إضافة إلى حقيقة أن قيادات عراقية نقلت رسائل الأميركيين إلى دمشق إبان بدء الضربات على أراضٍ في الشمال السوري.
وفي سياق الإجابة عن السؤال ذاته، نقلت مجلة «فورين بوليسي»، أول من أمس، عن مصدر قوله إن تدريب القوات العراقية سيحتاج إلى نحو ألف مدرب، وأن الولايات المتحدة تريد من حلفائها في «حلف الشمال الأطلسي» أن يشاركوا في تأمين العديد، ليضافوا إلى نحو 1500 مستشار أميركي موجودين حالياً على الأراضي العراقية.
عموماً، أطراف عراقية عدة معنية بالإجابة عن مجمل التساؤلات عن التدخل الأميركي المتوسع. أبرز تلك الأطراف «التحالف الوطني» (يضم قوى يتزعمها المالكي ومقتدى الصدر وعمار الحكيم، تحت عباءة المرجعية) لما يمثله من ثقل في الساحة العراقية ولدوره المبهم في الموافقة على ما يجري اليوم في البلاد، خصوصاً أن أحاديث كثيرة تشير إلى أن هذا المكون السياسي يشهد انقسامات حادة ضمنه.
فعلياً، هناك صيغة حكم جديدة تُعَدّ للعراق. من هو القابل بها؟ ومن يسير مستفيداً خلف التوظيف الطائفي لما يجري في بلاد الرافدين؟