حقيقةٌ لا مناص منها: الشخصية المصرية التي كانت عجلة القيادة في محيطها لسنوات طويلة، أصبحت «معطوبة» كسيارة ترجع إلى الخلف باستمرار. ورجوعها هذا لا يجرح صورة مؤثرة عن «الزمن الجميل» في وجدان المصريين (بُعثت من جديد مع صعود «ثورة يناير» وما لبثت أن انهارت)، لكنه يكرّس صورة جديدة للانسان المصري هذه الأيام.
«البشر أصبحوا خطرين، التجمعات باتت خطيرة، المواصلات وتقريباً كل شيء»، تقول الناشطة المصرية ندى المخزنجي، التي تتحدث عن «الكراهية والعنف» اللذين يملآن الشوارع: «الوعي مشوَّه والمضطهدون ليسوا نساءً فقط. كل إنسان يجد من هو أضعف في نظره ليقهره، ليشعر بأنه طبيعي»، متسائلةً: «لماذا كل هذه الكراهية والعنف؟ وما هو مصدرهما؟».
تُعدّ المرأة المصرية مرآة الانهيار الذي عرفه المجتمع. وقد أزاحت «ثورة يناير» الستار عن جذور التمييز ضد المرأة. برأي الناشطة السياسية داليا موسى، تعود هذه النظرة إلى التديّن النفطي الدخيل على مصر، الذي يقول إن المرأة «جوهرة مصونة يجب أن تُعرض في البيت لمن يدفع أكثر، ما يعني تحريم وتجريم مشاركتها في الحياة العامة أو في أي تغيير للواقع».
زاد الإحباط في الآونة الأخيرة فمال المزاج الشعبي إلى العنف أكثر

كان أنصار الرئيس الأسبق حسني مبارك يشتمون المرأة لأنها نزلت من البيت إلى ميدان التحرير. أما «الإخوان» والسلفيون، فقد كانوا يردّدون الكلام نفسه تحت مظلة دينية.
تعرّضت الشخصية المصرية لهزّات كثيرة خلال العقود الماضية. «مرضت» منذ نكسة 1967، وهي كانت قبل ذلك ميّالة في سماتها الأساسية إلى التديّن المصري البسيط القائم على التسامح والارتباط بالأرض والأسرة وروح النكتة.
خلال المرحلة الناصرية، عرفت الشخصية المصرية صعود تأثيرها في محيطها، عبر السينما والموسيقى والسياسة والثقافة. وبانتهاء هذه الحقبة، ومجيء مرحلة «الانفتاح الاقتصادي»، تاهت الشخصية المصرية وجرى اختراقها من قبل أتباع الإسلام السعودي الوهابي الذي هجم على المصريين بـ«سلّة» صحراوية مملوءة بقيم استهلاكية و«فهلوة» وانتهازية وفردانية، وتديّن سلفي يحطّ من قيمة المرأة ويبخّس بالتنوير، جنباً إلى جنب مع سلطة سياسية تروي بذور الاسلام السياسي بالتزامن مع الانفتاح على الادارة الاميركية ثم توقّع معاهدة «كامب ديفيد» وتروّج لغربنة، لم يكن المصريون جاهزين لهضمها في ذاك الوقت.
في الفترة التي سبقت «ثورة يناير»، وفقاً الباحث محمد السنوسي الداودي، استغل الإسلاميون مظلوميتهم الشكلية، واشتداد استبداد نظام مبارك، وقدمت الدولة المصرية استقالتها من واجب تقديم الخدمات للمواطنين، فسادت نظرية «البقاء للأقوى»، وكان من بين ضحايا هذا المعادلة المجنونة: المرأة (تحرّش في ارتفاع رهيب وشوارع وميادين عمل غير آمنة)، الفقراء (بطالة وعشوائيات وبلطجة)، والأقليات (خناقات طائفية، يستفيد منها الإسلاميون والنظام الحاكم معاً).
هذا كله أرهق الشخصية المصرية ودفعها إلى أسهل الحلول، وهو تصدير «النزعة الفهلوية» إلى الواجهة، أو بشكل أدقّ «متلازمة استوكهولم»، التي تجعل الضحايا يتعاطفون مع قاهريهم، من ناحية، ومن ناحية أخرى يسيّد الفردية والتطرّف والتعصب وعدم التوافق مع المجموع، ويجعل قطاعاً آخر يهرب إلى السلفية التي تعتبر مُنجزات الثقافة والحضارة المصرية «حراماً»، بكل ما تحمله من قيم العمل وتقدير الجماعة والتحضر والإبداع والتسامح واحترام المرأة.
لم تكن الشخصية المصريّة يوماً متعصبة. ولم يحبّ المصريون «التديّن الصحراوي». فالمصريون الذين أقاموا الديانات القديمة، بنوها على التعددية، قبل أخناتون، وهو ما يتناقض مع فكرة التوحيد التي جاء بها الإسلام.
هزّات كثيرة تعرضت لها الشخصية المصرية المتسامحة، في الآونة الأخيرة، زادت حالة الإحباط بين الناس، فمال المزاج الشعبي المصري إلى العنف أكثر. زاد التحرّش، وارتفع منسوب الانحطاط في الفنون، إذ لا يمكن استبعاد الإنتاج الفني الرثّ (سينما، موسيقى، فكر) عن هذا المزاج.
من جهته، يؤكد مدرس التاريخ الموسيقى، الدكتور أيمن محفوظ، أن المصريين كلما ابتعدوا عن تراثهم ازداد التخلف في سماتهم الشخصية، معتبراً أن الإنتاج الفني الحالي في مصر، الذي ينضح بالعنف والسباب، «هو انعكاس لنفسية مشوَّهة سائدة في معظم العقل الجمعي تلوثت بفعل الثقافة السعودية ــ الخليجية القبلية، التي تُضخّ مع أموالهم للسلطة في مصر». ويضيف أن المصريين «المنضوين تحت عبودية الكفيل يعودون إلى مصر بثقافة وهابية غريبة عن مجتمعنا، ثم تترك الدولة السلفيين، الطابور الخامس للسعودية، يلعبون في العقول».
ولكن هل تدوم هذه الحالة طويلاً؟ يقول مدير مركز البيت العربي للبحوث والدراسات، مجدي عبد الفتاح، إن الإفقار والتجهيل ونظام السوق والمال الخليجي، التي رعتها الأنظمة السياسية المتعاقبة، هي ما أضرّت بمنظومة القيم التي ميزت الشخصية المصرية تاريخياً، معتبراً «أنها حالة مؤقتة تزول بزوال الأسباب التي أنتجتها، وأن العقل الجمعي يستطيع كسرها بسهولة لأنها قشرية وليست مكوّناً أساسياً في الشخصية المصرية».