في ظلّ النظرة الدونية إلى المرأة ومناخ العنف السائد في المجتمع، هناك نساء مصريات قررن الاستقلال عن عائلاتهن، سواء عبر الخروج من المحافظات إلى العاصمة، أو عبر الانتقال من منزل العائلة في القاهرة إلى سكن مستقل أو إلى أحد مساكن المغتربات، ما يضع الفتاة أمام تحديات مادية واجتماعية عديدة، مثل توفير مصدر للرزق والبقاء على علاقة مع العائلة وتحقيق الذات في الوقت نفسه.
القرار ليس سهلاً ويحتاج إلى الكثير من الترتيبات. وحتى بعد أن تجتاز الفتاة معاركها مع العائلة والأصدقاء، تجد نفسها من بعدها في مواجهة معركة أكبر مع حياة هي وحدها المسؤولة عن كل التفاصيل فيها من توفير رغيف خبز للإفطار في الصباح، وصولاً إلى توفير مسكن والتزام إيجاره شهرياً، وما يتبع ذلك من تعامل مع سماسرة وجيران ومجتمع يتعامل لسنوات مع حياة الفتاة من منظور المثل الصعيدي القديم: «البنت لا تخرج من بيت والدها إلا لبيت زوجها، ولا تخرج من بيت زوجها إلا لقبرها».
كانت سلوى (اسم مستعار) إحدى تلك الفتيات اللواتي اتخذن قراراً بالاستقلال بعيداً عن منزل عائلتها في الإسكندرية والسفر للعمل في القاهرة، بعد أشهر قليلة من إنهاء دراستها الجامعية. بمساعدة بعض الأصدقاء استطاعت أن توفر فرصة عمل في مجالها الدراسي بمرتب قليل بالكاد يكفي لاستئجار سرير في غرفة مشتركة في سكن خاص بالمغتربات. ومن خلال ادخار نقود لمدة ثلاثة أشهر في منزل عائلتها، استطاعت توفير نفقاتها في القاهرة لمدة شهر واحد، حتى ظلّ أمامها الأمر الأصعب، وهو أن تخبر عائلتها بقرارها.
«إذا أردتِ أن تعيشي في بيت من دون أن يتحكم أحد في حياتك فعليك أن تدفعي أموالاً كثيرة»

تروي سلوى (25 عاماً) لـ«الأخبار» عن هذه الفترة: «لا أستطيع تذكر أي شيء منها سوى الصراخ. أمي تصرخ لتنهيني عن الرحيل، وأبي يصرخ بأمي حتى تضغط علي كي لا أترك المنزل، وأنا أصرخ في كليهما بأنني بحاجة إلي العمل وإلى تجارب جديدة». وتتابع بالقول إن الأمر ظلّ كذلك لشهر، «قبل أن يعود أبي إلى المنزل ويجدني وقد انتهيت من تجهيز حقيبتي للسفر في اليوم التالي... نظر إليّ ولم ينطق، ثم طلب مني أن أذهب إلى الأزهر الشريف وأحضر له فتوى تقول إنه ليس حراماً أن تعيش الفتاة خارج منزل والدها، وهو ما فعلته» (!).
تواصل سلوى: «كنت أظن أن إبلاغ أهلي بالأمر هو أصعب شيء، وما بعد ذلك سيكون مقدوراً عليه، لكني فوجئت بأن الصعب قد ابتدأ لتوه ولن ينتهي أبداً. فالمشقات كثيرة، بدءاً بالتأقلم مع فكرة السكن مع غرباء، إلى ظروف العمل الصعبة والطويلة، ومواجهة الحياة في العاصمة الواسعة ذات الهواء الملوث والطرقات التي تمتلئ بالمتحرشين وجيران لا يملّون من التطفل، ما داموا قد علموا أن هذا البيت تسكنه فتاة بمفردها أو مجموعة فتيات».
أشياء كثيرة تتغير في الفتيات اللواتي يتخذن قرار الاستقلال والعيش بمفردهن في العاصمة، وتغير جذري يحدث في شخصياتهن. يصبحن أقوى ولا يلتفتن كثيراً لأحاديث المجتمع أو الناس. عن هذا الموضوع، تقول دينا مصباح (28 عاماً) التي استقلت في القاهرة منذ ثلاثة أعوام، في حديث إلى «الأخبار»، إنه «لو التفتّ إلى كل ما يقوله الناس عني، فلن أخرج من المنزل ولن أفعل أي شيء في حياتي».
وحتى على مستوى الزواج والعلاقات العاطفية، تغيّر الحياة المستقلة من النظرة التقليدية للزواج في نظر الفتيات، حيث تتحول النظرة من فتاة «تنتظر عريساً يحقق لها أحلامها»، إلى فتاة بدأت بالفعل في بناء عالمها وتنتظر من يشاركها فيه من دون أن يفرض سيطرته عليها.
تختلف الحكايات والتفاصيل داخل المدينة الكبيرة التي تختفي فيها العواطف وسط زحمتها القاسية وصخبها الذي لا يهدأ. إلا أنه بين الحين والآخر، يظهر صوت قوي لفتاة تحاول أن تبني مستقبلها وحيدة في القاهرة، أو تبحث عن حياة هادئة أكثر هرباً من منزل عائلتها الممتلئ بالمشاكل، وهي التجربة التي خاضتها يسرا الهواري (22 عاماً). نفذت الفتاة التي تعمل في مجال الأدوية قرارها بالاستقلال منذ سبعة أشهر، وهي تحكي لـ«الأخبار» عن بيت عائلتها الذي تحوّل إلى مكان تذهب إليه للنوم فقط، وتطاردها الكوابيس في نومها ما دامت في هذا المنزل، بسبب المشاكل العائلية بين والديها.
لذا، تخلت يسرا عن رفاهية العائلة، وبدأت في ادخار الأموال ثم استأجرت غرفة في شقة في وسط البلد مع أشخاص أجانب كان بينهم شابان. وبالرغم من أن كل منا كان يستأجر غرفة بمفرده، «لم يتوقف الجيران عن مضايقتنا، كانوا يكتبون على باب العمارة كلمات من نوعية هناك شقة للدعارة والحرام نهايته سيئة». ومع تزايد المشاكل والضغوط، قررت أن أرحل عن هذا المنزل والحث عن آخر.
تمضي يسرا في سرد تجربتها، قائلة: «خلال رحلة البحث عن سكن آخر كان السماسرة يتعمدون توجيه إهانات غير مباشرة لي، وتعاملوا معي بمنطق أن الحرية ثمنها غالٍ جداً (...) إذا أردتِ أن تعيشي في بيت من دون أن يتحكم أحد في حياتك فعليك أن تدفعي أموالاً كثيرة». أما على مستوى الأصدقاء، فقد كان التعامل مع الفتاة من منطلق أن «من تركت بيت أهلها تستطيع فعل أي شيء، لدرجة أن زوج شقيقتي قال لعائلتي: اقتلوها، إلا أن موقف أصدقائي القريبين مني لم يتغير، وهذا ما دعمني».