لم يحدّ تشديد عقوبة القانون ضد المتحرّشين من تفشي الظاهرة التي انتزعت من النساء المصريات حق التجوال في شوارع بلدهم بحرّية. الظاهرة التي برزت في المجتمع منذ بداية الثمانينيات مترافقةً مع التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المصريون حينها، لا تزال كابوساً يطاول كل منزل في مصر، وهو لا يمسّ المرأة فقط، إذ إنه يتهدد الأطفال في المدارس والأماكن العامة كذلك.
مع مرور الوقت، باتت أماكن وأوقات التحرّش في القاهرة متعارفاً عليها وعلى نوع التحرش الذي يمارس فيها، ما إذا كان لفظياً أو يدوياً. وأصبحت الميادين التي يكثر فيها التحرش معروفة مثل ميدان عبد المنعم رياض وميدان التحرير، فضلاً عن المتنزهات العامة والكورنيش ومنطقة الأهرام.
أما خريطة الأيام التي تشهد أكثر حالات التحرش، فهي أيام العطلات والأعياد والمناسبات القومية، وأخيراً انضمت إليها التظاهرات التي تتم بأوقات متفرقة.
أفضل القوانين لن يُجدي نفعاً إذا استمر المارّة والشرطة في خلق الأعذار للمتحرش

ولعلّ أحد أشهر حوادث التحرّش كان الحادثة التي شهدها ميدان التحرير ليلة الاحتفال بتنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي حينما اغتصب عدد من الشبان سيدات في الميدان على مرأى ومسمع من الحاضرين. تلك الحادثة عُدّت النقطة التي أفاضت الكأس لدى الحكومة، ما دفع السيسي إلى زيارة إحدى الضحايا في المستشفى وتقديم الاعتذار لها، قبل أن يكلف الحكومة تعديل قانون العقوبات ليشمل تشريعاً يشدد العقوبة على المتحرشين. ووصلت هذه العقوبة إلى السجن 20 سنة لبعض المتحرشين، مثلما حدث مع الجناة في حادثة «التحرير».
وطبقاً لاستطلاع الرأي الذي نشرته هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة عن التحرش الجنسيّ، فإن 99.3% من السيدات المصريات تعرضن للتحرش بصورة أو بأخرى. 96.5% منهن قلن إن التحرّش كان جسدياً، و95.5% منهن تعرّضن للتحرّش اللفظي.
ونصّ القانون الجديد الذي أقرته الحكومة على أن يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن 3000 جنيه ولا تزيد على 5000 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، «كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل، بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية». وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنة، وبغرامة لا تقل عن 5000 جنيه ولا تزيد على 10 آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجاني من خلال الملاحقة والتتبع للمجني عليه.
من جهة أخرى، ازداد التحرش تجاه الأطفال، وأكدت إحصائية «المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية» المصري، أن 62.6% من ضحايا التحرش والاعتداء الجنسي في مصر لا يتجاوز عمرهم الـ20 عاماً، ونصفهن من الأطفال ما دون الـ15عاماً. وذكر المركز أن نسبة الآنسات في قائمة الضحايا بلغت نحو 75%، ونحو 40% منهن من غير المتعلمات، أما الجناة فغالبيتهم لم يسبق لهم الزواج.
من صعيد مصر، تحدثت «الأخبار» مع أم لطفل في المرحلة الابتدائية، تعرض للتحرش الجنسي من قبل زملائه في الصف نفسه، أي لا يتعدون سنّ الـ10 سنوات.
وحين أغفل مدير المدرسة الواقعة واكتفى بلوم التلاميذ، أبلغت الأم أقرب قسم شرطة لها، إلا أن نتائج التحقيق التي بدأت منذ أسابيع لم تسفر عن شيء بعد.
ودفع تعدد حالات التحرش وأساليبه ومواقعه الشباب لإنشاء منظمات تهتم بهذا الشأن، بدءاً من التحرش بالشارع، وصولاً إلى التحرش الداخلي بين أفراد الأسرة. ويقول أحمد حجاب، أحد مؤسسي مبادرة «خريطة تحرش» لـ«الأخبار»، إن المبادرة تعمل على تفعيل العقوبات الجديدة المفروضة على جريمة التحرش الجنسي والاستفادة منها.
وانتقد حجاب عدم تفعيل القوانين الخاصة بتجريم التحرش في مصر، مشيراً إلى أن قوانين الاعتداء لم يجرِ تفعيلها في السابق وهو الأمر الذي ساعد تدريجاً على خلق فكرة أن التحرش الجنسي ليس جريمة حقيقية.
«خريطة التحرش» تعمل، بحسب حجاب، على تكوين إجماع قوي ضد هذا السلوك، «لكي يراه الجميع على أنه جريمة يجب معاقبة مُرتكبها، فإذا استمر المارّة والشرطة، على حد سواء، في خلق الأعذار للمتحرش ولَوم المُتَحرَّش بهن/م فإن أفضل القوانين صياغةً لن يُجدي نفعاً».
ويحتوي قانون العقوبات المصري على المادة 278 الخاصة بـ«الفعل الفاضح في المجال العام» الذي يُستخدَم أحياناً في ما يتعلق بجرائم التحرش الجنسي، بالإضافة إلى المادتين 267 و 268 اللتين تستخدمان للفصل في جرائم أخرى تتعلق بالتحرش الجسدي وبالعنف الجنسي، مثل الاغتصاب والاعتداءات الجنسية الأخرى، إلا أن هاتين المادتين مشكلتهما أنهما تفتقران إلى آلية إنفاذ جيدة، وأن كلتيهما غامض ومحدود في وصف الجرائم التي تختصان بالفصل فيها.
وتصف المادة 268 الجريمة على أنها هتك «عرض» أو «شرف» بدلاً من وصفها بأنها اعتداء جنسي وجسدي واضح. أما المادة 267 فتحدد اختصاصها في ما يتعلق بـ«الاغتصاب المهبلي باستخدام القضيب»، فيما تبقى جرائم الاعتداء الجماعي والاغتصاب الشرجي والاغتصاب الفموي، والاغتصاب من طريق استخدام أجسام غريبة، بالإضافة إلى أشكال أخرى من العنف الجنسي، غير مجرَّمة بالشكل اللازم في نص تلك القوانين. ويؤكد حجاب أن التحرش جريمة يساعد غياب تطبيق القانون على انتشارها.