عام 1976 قدم العقيد معمر القذافي أيقونته للعالم، «الكتاب الأخضر» أو «النظرية العالمية الثالثة»، وعدّه الحل الأنجع لخلاص العالم من مشاكله بعد سقوط الاشتراكية والرأسمالية «وفق دراساته واستنتاجاته». تقوم نظريته على «سلطة الشعب»، فعبر الشعب تتحقق «الديموقراطية المباشرة».
وأنشأ لهم مؤتمرات شعبية «شبه برلمانات» للتشريع ولجاناً شعبية «الوزارات» للتنفيذ. هكذا هي الديموقراطية الصرفة بمفهوم «العقيد»، الذي أكمل في تعليق شعاراته الرنانة في كلّ شوارع ومدن ليبيا: «الديموقراطية الحقيقية لا تقوم إلا بوجود الشعب نفسه، لا بوجود نواب عنه»، و«السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب».
طبعاً كل هذا كان ترّهات، الليبيون جميعاً كانوا يدركون ذلك، فالمؤتمرات لم تكن إلا ملتقى «لشرب الشاي وتصعيد دخان سجائر زواره فقط». كانوا يعلمون أنهم يعيشون وفق مزاجية «عقيد» هو الآمر الناهي في أي شاردة أو واردة في «الجماهيرية».
من الظلم القول إن الثورة الليبية كانت مؤامرة منذ بدايتها، بصرف النظر عن مراحلها وتحولاتها. الشعب فعلاً ثار وتحرّك بعدما ذاق الأمرّين من ظلم القذافي وأبنائه.
أما اليوم، فالبلاد على «كف عفريت»، وكل يوم يمر من دون قتال يترحم عليه الناس، ودم معركة طرابلس الأخيرة لم يجف بعد. المجتمع الدولي يعترف بمجلس النواب المنتخب في آب الماضي، وحكومة عبد الله الثني المنبثقة منه شرعية لا غبار عليها. بعكس حكومة عمر الحاسي التي لا تستند إلى أي أساس قانوني، لأن تأليفها جاء بناءً على موافقة «المؤتمر الوطني» المنتهية صلاحيته.
المتحاورون لم يتحدثوا عن وقف القتال أو إعادة تفعيل عمل مؤسسات الدولة
المصرف المركزي يرفض صرف الأموال، ورواتب الموظفين باتت على المحك، والشلل سيضرب المؤسسات. وفي موازاة ذلك، يتحرك شيوخ القبائل من باب تبادل الأسرى. ويدخل المجتمع الدولي على الخط، ليفتح قنوات اتصال مع بعض النواب، فيُتَّفَق على عقد جلسة حوار بين نواب مقرّبين من «الكرامة» وآخرين مقربين من «فجر ليبيا» في غدامس، المنطقة الأمازيغية الآمنة والقريبة من الجزائر.
يأتي النواب بالفعل لحضور جلسة حوار برعاية الأمم المتحدة. نصف ساعة من الدردشة بلا أي أفق، ظهر جلياً فيها انقسام معسكر «فجر ليبيا». بعضهم طالب بأمور تافهة، كأن يأتي نواب المجلس إلى طرابلس لتسلّم مهماتهم، بنحو دستوري، من المؤتمر الوطني، فيما طالب آخرون بعودة الملاحة سريعاً إلى مطار طرابلس، ما يعني وضع يد الإسلاميين عليه وتثبيت انتصارهم في العاصمة.
الغريب أن المتحاورين لم يتحدثوا عن وقف القتال أو عن آلية إعادة تفعيل عمل مؤسسات الدولة، بل سعى فريق في «فجر ليبيا» إلى تفجير الحوار، عندما طالب بملاحقة كل قوى الانقلاب على «ثورة 17 فبراير»، في كافة أنحاء ليبيا.

مصر تدعم حلفاءها... عسكرياً!

مصادر خاصة تؤكد لـ«الأخبار» أن سفينة مصرية محمّلة بالأسلحة الحديثة وصلت إلى ميناء طبرق وأفرغت هناك حمولتها قبل أن يصل رئيس الحكومة عبد الله الثني برفقة رئيس الأركان العامة للجيش الليبي العقيد عبد الرزاق الناظوري إلى القاهرة. وهناك، التقى الثني نظيره المصري إبراهيم محلب، قبل أن ينفرد هو والناظوري بالسيسي. الاجتماع، بحسب المصادر، تركّز على محاربة الإرهاب، ولا سيما في الشرق الليبي. وقدّم الثني شرحاً مفصلاً للسيسي بشأن أحوال الشرق الليبي ومدى حساسية الوضع الأمني، سواء لمؤيدي «الكرامة» أو لمصر. فمدينة درنة التي لا تبعد عن مصر سوى 200 كلم، أعلن متشددوها العائدون من القتال في سوريا والعراق قيام «الدولة الإسلامية» المؤيدة لتنظيم أبو بكر البغدادي.
سفينة مصرية
محمّلة بالأسلحة
الحديثة وصلت إلى
ميناء طبرق
و«أنصار الشريعة» وذراعها السياسي «مجلس شورى ثوار بنغازي» يتحصنون في أحياء مدينة بنغازي، بنحو يصعب على الجيش مواجهته. الكفرة في الجنوب الليبي بات نقطة تجمّع وصلة وصل بين الجماعات المتشددة القادمة من السودان أو تشاد، التي لا تبعد كثيراً عن مصر.
دخل الناظوري على خط الحديث، وقال للسيسي إن جيشه يعاني من نقص حاد في الأسلحة الحديثة، وطائراته متهالكة وآلياته قديمة، فضلاً عن أنه بحاجة للتحديث.
أنصت السيسي إلى كلامهما جيداً، مدركاً خطورة هذه الجماعات على مصر، فجيشه يعاني يومياً من «أنصار بيت المقدس» في سيناء. وبالتأكيد، هو لا يريد للسيناريو نفسه أن يستنسخ في غرب بلاده.
تؤكد المصادر أن السيسي أعطى كلمته للثني بأن الجيش المصري سيزوّد قوات الناظوري بالسلاح النوعي، إضافة إلى صيانة الطائرات الليبية. وفي المرحلة الأولى ستزوّد المخابرات المصرية الجيش الليبي ومقاتلاته بمعلومات عن نقاط تجمّع الإسلاميين المتشددين.
ينتهي الاجتماع ليعود الثني إلى ليبيا ويعلن أن الجيش الليبي بات الآن تحت إمرة الناظوري و«عملية الكرامة» أسست لتواجه الإرهاب. وإذا هتف الشعب لإسقاط «فجر ليبيا»، فإن الحكومة والجيش لن يترددا في مساندة الشعب. كلام يدل على أن الثني تلقى جرعة معنويات عالية في مصر، وأُعطي الضوء الأخضر للتحرك ميدانياً وسياسياً.
ويبدو أن «عملية الكرامة» تتأهب لاستعادة كرامتها المفقودة بعد خسارتها طرابلس. متى تنطلق هذه المعركة؟ لا يبدو أنها بعيدة، ولكن الأكيد أنها لن تكون أقل دموية من المواجهة السابقة.
القذافي رفع شعار «السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب»، لكنه اختزل المقدرات الثلاثة بيده. هذه المقدرات، هي اليوم حقاً بيد الشعب... فهل سيحسن استعمالها؟





الجزائر مفتاحاً للحلّ؟

لم توصد أبواب التواصل بعد. هناك إمكانية لعودة الفرقاء للتلاقي. وقد يحدث ذلك بعد العودة من الجزائر التي وافقت على استضافة حوار ليبي على أراضيها، والتي تستعد لاستضافة القوى الفاعلة في ليبيا وخارجها. من هنا يأتي السؤال: هل ستكون الجزائر مفتاح الحلّ للأزمة الليبية؟
- قبل الثورة في ليبيا، كانت العلاقات بين معمر القذافي والرئيس عبدالعزيز بوتفليقة في أفضل أحوالها. وحتى بعد اندلاعها، فقد استقبلت الجزائر عائلة القذافي، وقدّمت الدعم العسكري، واتخذت موقفاً صريحاً ضد الثورة. هذه المواقف لم ينسها بعد رجال ليبيا ما بعد القذافي.
- ليس للجزائر علاقات قوية مع الأحزاب الليبية الحالية، اللهم بعض قادة النظام السابق.
- صحيح أن الجزائر تربطها حدود طويلة مع ليبيا، لكنها لا تمثل نقطة تشابك قبائلية بين البلدين، إلا لقبائل الطوراق المتنقلة في الصحراء الكبرى، وعملياً ليس «لأمازيغ الصحراء» أي تأثير فعلي في القرار السياسي الليبي.
- الأمن، قد يكون الملف الوحيد الذي يربط الجزائر بليبيا، فحيث تغيب الدولة تسرح «القاعدة»، وجنوب ليبيا بات مسرحاً لها ومركزاً لانتقال عناصرها إلى الدول المغاربية. ملف يهم الجزائر، لكن هل يهم ليبيا حالياً وخصوصاً إسلاميوها؟ الجواب طبعاً لا.
من الصعب التفاؤل بأي نتائج إيجابية لحوار الليبيين في الجزائر، وأساساً الذاهبون إلى الجزائر لا يولون وجههم شطر الغرب، بل صوب مصر والسعودية، وفي اتجاه قطر وتركيا. فمن هناك يأتي المال والسلاح، وهناك يتقرّر مسار البلاد ومصيرها.