اسطنبول | عندما أمر هتلر جنرالاته، في آب ١٩٤٢، باحتلال ستالينغراد، لم يكن يتوقع أن هذه المدينة ستتحول إلى مقبرةٍ تاريخية للعقيدة النازية. صمد سكان المدينة والجيش السوفياتي أمام الحصار النازي الذي استمر حتى بداية شباط ١٩٤٣، على الرغم من مقتل نحو مليوني إنسان من الطرفين في هذه الحرب.
كانت هزيمة الألمان وحلفائهم في ستالينغراد، مؤشراً عملياً على الهزيمة النهائية للنازية والفاشية التي انتصر عليها الشيوعيون السوفيات، منذرين بقيام نظام عالمي جديد بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
اليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً، يبدو الوضع في عين العرب (كوباني)، لا يختلف كثيراً عن ستالينغراد، وخصوصاً أن بين النازية وتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) قواسم مشتركة كثيرة، رغم الفروقات في العقيدة والدين والعرق.

هذا التشبيه دفع البعض إلى وضع سيناريوات عدة حول مستقبل المنطقة، إذا سقطت كوباني أو صمدت. في حال سقوط المنطقة، فإن الخاسر الأكبر سيكون زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان، لما لكوباني من مكانةٍ خاصة في نفسه. حيث حط فيها لأول مرة عندما هرب من تركيا أواخر ١٩٧٩، وسكن فيها كثيراً خلال وجوده في سوريا حتى ٩ تشرين الأول ١٩٩٨، عندما غادرها إلى اليونان.
إضافةً إلى أن عدداً كبيراً من قيادات «الكردستاني» هم من مواليد كوباني التي شهدت ولادة الحزب «الاتحاد الديموقراطي الكردستاني»، الجناح السوري لحزب أوجلان.
كذلك، إن سقوط كوباني سيفقد أوجلان ورقة مهمة في مساوماته مع أنقرة التي تتخوف من نجاح تجربة الحكم الذاتي الكردي في سوريا. أما فشل هذه التجربة فسيفقد أوجلان زمام المبادرة في القضية الكردية، في ظلّ منافسة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني الذي لم يحرّك ساكناً لفك الحصار عن كوباني.
وسقوط كوباني قد ينهي الحلم الكردي في إقامة إدارة ذاتية في المناطق الكردية السورية بعدما تحوّلت كوباني إلى قضية قومية لكل أكراد العالم الذين يحلمون بمساهمة أكراد سوريا في إقامة الدولة الكردية الكبرى بعد مدّ حدود الحكم الذاتي في سوريا إلى الشمال، لتشمل بذلك المناطق الكردية في تركيا أيضاً. وإذا سقطت كوباني فلن يكون هناك صلة جغرافية بين الكانتونات الكردية في عفرين والقامشلي، في وقت يعرف فيه الجميع أن «داعش»، إذا احتل كوباني لن يتردد في مهاجمة عفرين، ولاحقاً مناطق كردية أخرى في منطقة الحسكة. حينها سيسيطر «داعش» على الشريط الحدودي مع تركيا اعتباراً من اعزاز حتى تل أبيض، وهو الشريط الذي يصل طوله إلى ١٦٠ كلم، وبعمقٍ يمتد حتى الرقة وشرق حلب ودير الزُّور، ما سيعطيه الفرصة للسيطرة على ٩٠٪ من آبار النفط والغاز في المنطقة وتزيد قيمتها المبيعة سنوياً على ٤ مليارات دولار.
هذه المعطيات تدفع أنقرة إلى مراقبة التطورات عن كثب، ولكن من موقع المتفرج. حيث قال أردوغان صراحةً إن «داعش» و«بي كا كا» تنظيمان إرهابيان يمثلان خطراً على الأمن الوطني والقومي لتركيا.
كذلك، إن أنقرة لن ترتاح لاحتمال قيام كيان كردي جديد في شمال سوريا، طالما أن الأكراد هناك رفضوا الانصياع لأوامر رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو، حين طلب منهم، منذ ٣ سنوات، التمرّد على النظام السوري.
ولا تريد أنقرة أن يُكتب لتجربة الحكم الذاتي في شمال سوريا النجاح حتى لا يلحق بها أكراد تركيا، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تشهد علاقات أنقرة بأوجلان مداً وجزراً متبايناً، نتيجةً للتطورات الإقليمية المفاجئة في العراق وسوريا.

من جهتها، ترى العواصم الغربية، وخصوصاً واشنطن وبرلين وباريس ولندن، في كل هذه التطورات والمعطيات والحسابات فرصةً ثمينة لإحياء ذكريات الماضي، بعدما شهدت عين العرب ومناطقها قبل ١٠٠ عام صراعاً خفياً بين ألمانيا وكل من بريطانيا وفرنسا صاحبتي خرائط سايكس ـ بيكو التي لم تتضمن ذكر دولة كردية في المنطقة بسبب الصفقات اللاحقة بين هذه الدول وآتاتورك.
ومجدداً، يبقى الرهان على الدور التركي، مثلما كان قبل مئة عام. وبات واضحاُ أن أنقرة «العدالة والتنمية» لن تتردّد في أي مغامرة مهما كان حجمها لحسم المعادلة الكردية لصالحها، وخصوصاً إذا اقتنعت بأن «داعش» لا ولن تمثل خطراً عليها على المدى المتوسط والبعيد. فإمكانيات المناورة والتكتيك ما زالت قوية بالنسبة لأنقرة التي ترجح من دون شك سقوط كوباني على انتصار الأكراد.
وفي جميع الحالات، ومهما كانت نتيجة المعركة في كوباني، لقد بات واضحاً أن الأكراد تحولوا من جديد إلى ورقة، تارةً رابحة وأخرى خاسرة، في مجمل حسابات وصفقات دول المنطقة والعواصم الغربية التي ضحّت بالأكراد قبل مئة عام ووزعتهم على أربع دول، وها هي تحاول اليوم أن تلعب اللعبة نفسها من جديد.