تونس | عقبات عدّة حاصرت المرشّحات وجعلت وصولهن إلى قصر الرئاسة صعباً، بل مستحيلاً. فالحواجز القانونية والسياسية والاجتماعية أحاطت بهنّ، إذ ينص القانون الانتخابي على أنّ المرشح للانتخابات الرئاسيّة، فضلا عن كونه مسلماً تجاوز سن الخامسة والثلاثين، وإضافة إلى تقديم ضمان ماليّ يقدّر بعشرة آلاف دينار تونسي (ما يقارب الخمسة آلاف يورو) يجب عليه أن يجمع إمضاءات (تزكيات) عشرة نوّاب من المجلس التأسيسي (البرلمان) أو إمضاءات عشرة آلاف مواطن.
وهذا ما أخفقت المرشّحات في تخطّيه، فتزكيات نوّاب البرلمان ذهبت لمرشحي أحزابهم وحلفائها، أو لسياسيين استطاعوا بقوّة المال اقتناء التزكيات اللازمة مقابل مبالغ مالية ضخمة (وفق ما يرويه عدد من النواب). وبقي السبيل الوحيد أمام المرشّحات جمع إمضاءات المواطنين، وهي مهمّة صعبة بدورها، تتطلب فرق عمل تتوزع على كامل تراب البلاد لتجمع التواقيع.
الكرسي ليس "مذكرا" بالضرورة وهي حقيقة بنت عليها المرشّحات حلم الوصول إلى القصر، وحتى وإن تجاهل السّاسة المرشّحات التونسيّات، فإنّ ذلك لا يعني أنهن بقين في الظلّ. فمنذ دعوة حركة النهضة إلى التوافق حول مرشّح ستتولى تحديده وتقديم الدعم له، حثّ المرشّحون الخطى نحو منزل زعيم الحركة لنيل رضاه وثقته، علّهم يحصلون على تأشيرة التوافق التي ستضمن تصويت قواعد حركة النهضة (أحد أكبر الأحزاب في الساحة السياسية) له، ولم يطرح أيّ اسم نسائيّ خلال هذا السعي المحموم للحصول على لقب "المرشّح التوافقي"، ممّا يعني أن الأسماء النسائية مستبعدة، وهي الحلقة الأضعف في انتخابات الرئاسة. وفي ظلّ انتخابات يلقي المال السياسيّ بظلاله حولها، فإنّ أيّاً منهنّ لم تلق دعما من أصحاب رؤوس الأموال.
تواجه المرشّحات على الصعيد الاجتماعي "عقليّة ذكوريّة" ضاربة في عمق المجتمع التونسي، فعلاوة عن كون شق واسع من التونسيين يرفضون أن "تتولى أمرهم امرأة"، فإنّ المرأة الحاكمة في مخيلتهم الشعبية صارت رمزاً للفشل في إدارة البلاد والفساد. يقول التونسيون في نكاتهم دوماً إنّ البلاد لطالما حكمتها امرأة في الخفاء (الزوجة الثانية للحبيب بورقيبة وسيلة بورقيبة / ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس المخلوع بن علي) وأنّها أيضا مثال للاستبداد وخدمة المصالح الخاصة. ولذلك لم تحظ النساء بالدعم الشعبيّ الكافي، بل واجهن الرّفض والسخرية في بعض الأحيان.
المرشّحات من فئات اجتماعية مختلفة، جميعهنّ كفاءات، منهنّ المناضلة في حقبة الاستبداد، وأخريات التحقن بركب السياسة بعد الثورة (14 جانفي كانون الثاني) واخترن الدخول من أوسع الأبواب. أوّل انتخابات رئاسيّة إثر الثورة.
"كلثوم كنو" أوّل امرأة أعلنت دخولها سباق الرئاسة، والوحيدة التي قبلت لجنة الانتخابات ملفّها، هي قاضية ومن مؤسّسي (الجمعيّة الشرعيّة للقضاة التونسيين) زمن الرئيس المخلوع بن علي، هيكلٌ ضمّ القضاة النزهاء الرافضين للتعليمات والأوامر، ولتدخّل الرئيس الفار ومقرّبيه في السلطة القضائية آنذاك (واجهه بن علي بقمع مؤسسيه وتتبعهم وتسليط عقوبات عليهم). لم تغب "كلثوم كنو" يوماً عن أيّ تحرّك مساند للحقوق والحريّات العامّة ومناهضة التعذيب قبل الثورة وبعدها، ويعدها العديد من السياسيين والحقوقيين محاربةً شرسة من أجل استقلال السلطة القضائية. تغامر القاضية "كنو" بحيادها وحصانتها وتكاد تفقد عملها بترشحها للرئاسة، لكنّها تقول دائماً إنّ هذا الترشّح لا يعبّر عن رغبة في الحكم بقدر ما يقدّم للتونسيين بديلاً عن "الرئيس التوافقي"، وتتساءل عن أيّ حريّة انتخاب يتحدّث السياسيون وقد اختاروا سلفاً رفقة سفير الولايات المتحدة الأميركيّة رئيس تونس المقبل، وما على قواعدهم الجماهيرية سوى التوجّه إلى مراكز الاقتراع لتنفيذ أوامرهم؟
"بدرة قعلول" مرشّحة أخرى للرئاس. أستاذة علم اجتماع عسكري بالأكاديميّة العسكريّة، ورئيسة المركز الدوليّ للدارسات الاستراتيجية والأمنيّة والعسكرية، قدّمتها شاشات التلفزة كمحللة وخبيرة استراتيجية في القضايا المتعلقة بالإرهاب. أصرّت "بدرة" في جميع تصريحاتها على أنّ هدفها ليس ترأس البلاد بقدر ما هو مواجهة خطر الإرهاب الذي يتهدد تونس، ويحاول تقطيع أوصالها، وترى أن التصدي له أهم نقطة في برنامجها الانتخابي، لكنّها فقدت موقعها في سباق الرئاسة بعدما رفض ملفّها.
"ليلى الهمامي" مشروع رئيس ذي طابع خاص. فقد حازت منذ إعلان ترشّحها، اهتمام التونسيين الذين فوجئوا بظهور مرشحة "جميلة" ويافعة تريد الدّخول في السباق الانتخابي. لم تستطع "ليلى" المواصلة في مارثون الرئاسة، وقرّرت الانسحاب نظراً لعلمها المسبق بأنّ ملفّها غير مكتمل، طالما لم تتمكّن من الحصول على التزكيات الشعبية المطلوبة. عرفها التونسيون، أوّل مرّة، يوم أعلنت (في شهر حزيران الماضي) بأنّها مهدّدة بالاغتيال لسعيها لمحاربة الفساد في البنك الافريقي للتنمية. لتعلن لهم بعد برهة ترشّحها الذي لم يعيروه اهتماماً بقدر ما وجّهوا اهتمامهم ونقدهم للجراحات التجميلية التي أجرتها، ولتصريحاتها العنصريّة عبر الفايسبوك.
"آمنة منصور القروي" امرأة أعمال، خريجة جامعة اقتصاد فرنسيّة، مرشّحة أخرى رفض ملفّها لعدم حصولها على التزكيات، وأهم مبررات ترشحها كان التصدّي لتهميش المرأة، وإقصاء النساء من الساحة السياسيّة.
أمّا المرشّحة الأخيرة والأكثر طرافةً، هي تلك التي غزت مواقع التواصل الاجتماعي، وأضحت محلّ تندّر التونسيين. "مفيدة العمدوني" مرشّحة طريفة، قدّمت ملفّها لهيئة الانتخابات منقوصاً، وغير مستوف لأيّ من الشروط المطلوبة، وادّعت أنها "مضطرة للترشّح" بعدما طالبتها بذلك كلّ من روسيا واليابان والولايات المتحدة وفرنسا، وأنها ستحكم تونس بثروة ماليّة ضخمة ورثتها عن والدها. ليسارع زوجها فينفي ذلك، داعياً وسائل الاعلام إلى أن "تتركها وشأنها" فهي تشكو من اضطراب نفسيّ واضح.
خمس مرشّحات لم تصمد منهنّ إلا واحدة، وهي القاضية "كلثوم كنو"، يرجو العديد من التونسيين أن تواصل سيرها نحو قصر قرطاج، فهي الأقدر، وفق تقويمهم، على إقامة دولة القانون، الذي تتقن فنّ تأويله، والسّهر على احترامه.