مخيم اربد- شكس العليصرنا نعرف بلدان بعضنا: محمد من جنين، عرفات الرملاوي، حسن اليافاوي، سامي من عين كارم. اللافت أيضاً أن اللهجات كانت تختلف بيننا. أنا كنت أتحدث لهجة «كال وكلنا»، وهناك من يتحدث المدنية «آل وإلنا»، وطبعاً اللهجة القيسية أو البدوية للطلبة من بئر السبع ومن جنوب فلسطين بحرف «ج» الملفوظة كما في كلمة «غوغل» (Google).

هكذا، ببساطة اجتمعت فلسطين بقراها ومدنها وأقضيتها ولهجاتها في غرفة تتسع لأربعين طفلاً حكم عليهم اللجوء أن يتعلموا في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأنروا» ذات البوابات والشبابيك والأعلام التي تحمل اللون الأممي الأزرق.
كانت تحكي أم علي الصفورية "إذا شفته "للعلم الأزرق" وين ما كان إعرف انو في ناس منكوبة، وإعرف إنهُ في طوابير منهم بتوقف على باب مكتب الأنروا اللي بيشبه نقطة تفتيش جيش الاحتلال، بتستنى توخذ كرت المؤن أو الأكل أو تصريح لمستشفى، شي ملان إذلال، خاصة لما مكتب الأنروا يطردك عن الباب ويحكيلك اسمك مش مسجل عنا!".
قبل 16 سنة كان أول يوم لي في مدرسة الأونروا بمخيم اربد، او كما تُعرف بمدارس وكالة الامم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. ما كانت مدرسة... طول عمرها كانت معتقل. من سور المدرسة اللي طولو 5 متر وعليه اسلاك شائكة من فوق... والبوابة الحديدية العملاقة للمدرسة، وحتى نظام البناء الي بيشبه السجون الامريكية وكنا نشوفها بالافلام كثير. شبابيك الغرف زي غرف الاعتقال، نوافذ مع قضبان حديدية كثيفة، وممرات طويلة محاطة بقضبان من كل اتجاه.
كان لازم علي استوعب هاي الفكرة من البدايات. لكن انا زي باقي "الجثث" اللي كانت بالمدرسة، الجثث الي هدفها الاسمى تخلص من المدرسة عشان تلحق تبيع على عرباية الترمس مع ترويحة اهل المخيم من شغلهم عشان تشتري ساندويش اليوم الثاني.
الأونروا كانت مسؤولة عن تخدير العالم بالمخيم. بتذكر كمان طوابير الناس اللي كانت تطلع من 5 الفجر عشان توقف قدام مكاتب "الوكالة" بالمخيمات عشان توخد المونة. والي كان معاه كرت ابيض كان يستلم شوال عدس وتنكة زيت و15 علبة سردين وشوال طحين لشهر كامل اما اللي معوش كرت فكان ينام ع باب المكتب بلكي موظفين المكتب حسو شوي واعطوه شوال طحين. بس هني وببعض الاحيان كانو يتصلوا على الشرطة تيجي تشيلو عن الباب!
هذا الموقف لما شفته كان عمري 15 سنة. ووقتها رحت وقفت على الشباك واتطلعت جوا المخزن: كان في كثييير اكل، او مونة. وسألت: "ليش ما يوزعوهن ويريحوا حالهم؟ ماهو كل شهر بتيجي شحنة جديدة؟ اكتشفت الجواب بعد 10 سنين، لما شفت الناس كيف بتشكرهم بذل عشان فتحوا عيادة جديدة بالمخيم. وقتها عرفت انو هذا العلم الازرق ما بيقدم خدمة انسانية، بل يمارس سلطة العبودية من مكاتبه ومدارسه ومستشفياته. وكمان منهجية متعمدة عندهم بتخليك تتقبل فكرة التعايش بسلام مع اي حدا احتل ارضك. يعني مثلاً، كان ممنوع اي موظف منهم يحكي بالسياسة ولا بسيرة فلسطين! كانت كل كلماتهم تحمل اسم "السلام" مشان يبلّعونا المصطلح. لكن بالحقيقة همّ من الداخل نظام استعبادي ممنهج باسم حقوق الانسان!
كانت الانروا تحاول أن تجعلنا عاراً على أي مجتمع آخر عن طريق رهن حياتنا بمعوناتها المذلة وتوصيفنا كلاجئين بالمعنى القانوني! اينما تذهب فأنت لاجئ حتى لو اخترعت طائرة، ستبقى لاجئاً وسبب تخريب الدولة المستضيفة لك، وتبقى "هماً وغماً" على الكرة الارضية كلها بسبب تهجير الاحتلال لك من ارضك. السؤال اللي كان يراود الجميع "ليش الامم المتحدة بتساعدني وبدهاش اياني اروح ع بلادي؟ وليش وين ما يكون في حرب بتكون الانروا الملاك الابيض اللي بساعد العالم ؟ طيب لو مضلش في حروب ولا تهجير بتضّل الانروا؟
بعد حرب غزة الاخيرة ايقنت يقين تام انو الانروا بدهم ايانا نكون عبيد للكرت الابيض والعلم الازرق، واذا حاولت تعترض رح تموت من الجوع ورح تنسحب منك كل "حقوقك" الي هيه حقوق لاجئ مش مواطن، واذا ما عجبك رح يتهموك انك بتحرض على العنف وبتحرض على القتل. العلم الازرق، اللي هوي علم الامم المتحدة اللي بتسيطر عليه قوى الاستعمار من اول ما كان... كان السبب بتفشي الحروب بالقارة الافريقية وكان السبب بتهجير الكثير من سكان الشرق الاوسط باسم حقوق الانسان واغاثتهم من الحروب كفلسطين المحتلة والعراق بالتسعينات وسوريا مبارح واليوم ووحرمانهم من العودة الى بيوتهم مرة آخرى.
بدك تعرف شو معنى انروا؟ خدلك جولة على المخيمات عندك او جرب توقف ع طابور المؤن... ساعتها بتصير تحس فينا و... فيهم.