مثّل القرار الأميركي بتوجيه ضربات جوية لتنظيم «داعش» في سوريا بعد العراق تطوراً جديداً يزيد من تعقيد المشهد في المسألة السورية، خاصة لجهة انعكاساته على الأرض وارتباطه بالعلاقة الأميركية مع باقي الأفرقاء في إدارة الحرب السوريّة، وتحديداً روسيا.فإذا كانت موسكو تمسك بخيوط كثيرة من خلال علاقتها مع الحكومة السورية لجهة التسليح والدعم السياسي على الساحة الدولية، أو مع الحليف الإيراني، فهي لا تحتكر المشهد السوري سياسياً أو ميدانياً. المشهد أعقد وأكثر تشظياً على دول عديدة إقليمية ودولية متباينة في حساباتها ومصالحها. وهو ما عكسته جولة وزير الخارجية الأميركية جون كيري في المنطقة لإعداد الأرضية للضربات الجوية، من خلال ضمان مشاركة بعض الدول الرمزية، والتي جاءت بنتائج متفاوتة، وإن كان هناك إمكانية للحديث عن بوتقات وأنساق سياسية تحليلية يمكن للمراقب من خلالها إدراج عدد من الدول والسياسات في إطارها العام.

بالعودة إلى الموقف الروسي من الضربات الأميركية في سوريا وتوليفة العلاقة مع واشنطن، من المفيد التذكير بأن مطار الطبقة العسكري ومقر الفرقة 17، وهما آخر نقطتي ارتكاز للجيش السوري في الرقة، سقطا تباعاً في أواخر آب الماضي بشكل دراماتيكي اعتبره البعض نوعاً من عملية إخلاء قامت بها دمشق استعداداً لتوسّع العملية الجوية الأميركية لتشمل أقساماً من سوريا. خطوة كهذه لا يمكن أن تأتي من دون علم وتنسيق مع موسكو.
أما الموقف الروسي المباشر فتدرج وفق خط بياني واضح، من اعتبار الضربات الجوية ضد مقار «داعش» في سوريا من دون المرور بمجلس الامن خرقاً للقانون الدولي، إلى التأكيد على ضرورة التنسيق مع دمشق واحترام سيادتها، لا إعلامها فقط بموعد الضربات بشكل أحادي، وصولاً إلى الاعلان عن أن مكافحة الإرهاب لا تتم إلا من خلال إشراك الدول المعنية فيها، في دلالة على محاولة موسكو احتواء نتائج الخطوة الأميركية في سوريا، خاصة أن هذه الضربات جاءت بعد الاستفادة الأميركية من تنظيم «داعش» في العراق كحراك سنّي لضرب النفوذ الإيراني وإعادة شيء من التوازن بنظر واشنطن إلى المسار السياسي في بلاد الرافدين، إضافة إلى منع التنظيم من المساس بإقليم كردستان.
أما ميدانياً، فاللافت أن الضربات التي بدأت وتوزعت على أكثر من محافظة سورية، من إدلب إلى الرقة ودير الزور، لم تشمل أي موقع للجيش السوري حتى الآن، وهو أمر لافت، خاصة مع ثبات الخطاب الأميركي من عدم اعتبار «النظام السوري» شريكاً في الحرب على الإرهاب والتأكيد على المطالبة برحيله.
هذا كله يؤشر إلى طبيعة موازين القوى الدولية على الأرض السورية. فإذا كانت روسيا لا تستطيع منع الولايات المتحدة من خرق السيادة الجوية لسوريا، وقيادة عملية عسكرية لضرب «داعش» ومجموعة من التنظيمات الأخرى، على افتراض أنها كانت لترغب في منعها، فهي على الأقل لن تسمح للعمليات الجوية بضرب مواقع الجيش السوري بشكل يخل بالتوازن العسكري على الأرض لغير مصلحة الحكومة السورية، مع ما يترتب على ذلك من نتائج. وهو ما عبّر عنه وصول البارجة الروسية «سموم» إلى ميناء طرطوس في 24 أيلول، وهي تحمل صواريخ دفاع جوي شبيهة بمنظومة «اس 300» لحماية القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس، على ما أفادت تقارير إعلامية روسية، إضافة إلى دمشق ومنشآتها العسكرية، ما يؤشر على جدية روسيا في الدفاع عن مصالحها في سوريا من خلال الدعم الذي تقدمه لحكومة دمشق.
إذا كانت دمشق لا تشكل الحلقة الأهم والمواجهة الوحيدة بين روسيا والولايات المتحدة، خاصة أن أوكرانيا أكثر التصاقاً بالمصالح الكبرى والمدى الحيوي للحيز الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأكثر تأثيراً وبالتالي خطراً على أوروبا، فإنها، أي سوريا، لا شك تمثّل نقطة ثقل مهمة في سياسة روسيا التي تسمح لها بالعودة إلى الساحة الدولية كلاعب كبير، بعد أن أعادت بناء قوتها جزئياً بالنسبة إلى ما كانت عليه إبان الحقبة السوفياتية، بفضل سياسة يقودها فلاديمير بوتين.
فروسيا التي أعادت بناء منظومة السلطة فيها، وهو ما يسميه بوتين «عمودية السلطة»، وأوقفت النهب المنظم لاقتصادها بفعل السياسات الليبرالية الصادمة، واستفادت من ريع النفط بفضل ارتفاع الأسعار عالمياً، باتت تملك ولو جزئياً إمكانات سياستها الدولية. وهو ما أثبتته في أوكرانيا، بالرغم من الثمن الاقتصادي والمالي للمواجهة السياسية مع الغرب الذي يرفض حتى الساعة الإقرار بأن لدول مثل روسيا مصالح وطنية أسوة بأي دولة «قطع وسك» في الاتحاد الأوروبي.
وهذا ما تثبته روسيا مجدداً بتمسكها بشرعية الدولة السورية، خاصة بعد ما حصل في ليبيا، والدعم الكبير الذي قدمته لدمشق منذ بداية الأزمة حتى اليوم، على أكثر من صعيد. وهو ما يفسر موقفها من الحرب في سوريا وعليها. فالمسألة أبعد من قاعدة بحرية في طرطوس كان قد نبت العشب على أدراجها عشية الأزمة في 2011. المسألة متعلقة بعودة روسيا لاعباً أساسياً على الساحة الدولية، وحاجتها إلى شركاء إقليميين أصغر منها من أجل توازن علاقتها مع جيران أقوياء على رأسهم الصين.
لا شيء إلى الآن يؤشر إلى تغيّر دراماتيكي في موقف روسيا من الأزمة السورية، خاصة أن الموقف من الضربات الأميركية يؤكد هذا الاتجاه، ربما لأن هذا الدعم يستند إلى معطى موضوعي بسيط وأساسي، وهو قدرة النظام أساساً على المواجهة، والأوراق التي راكمها منذ عقود.