كما كانت خطوط النار تتغير وتتبدل طوال السنوات الخمس الماضية، كذلك كانت خطوط الفقر ومعيشة المواطن السوري، لكن مع فارق جوهري، وهو أن تغيّر خطوط الفقر والمعيشة كان يجري دائماً نحو الأسوأ، حتى عندما كانت خطوط النار تتبدّل لمصلحة الدولة السورية.
ففي وقت كان فيه أكثر من مليونين ونصف مليون عامل يفقدون مصدر دخلهم الأساسي، وأكثر من سبعة ملايين مواطن ينزحون عن منازلهم ومناطقهم، كانت تكاليف المعيشة ترتفع على نحو جنوني، وذلك تحت ضغط أربعة عوامل رئيسية هي: العقوبات الاقتصادية الخارجية وما نجم عنها من ارتفاع في تكاليف الاستيراد وندرة بعض السلع والمواد في الأسواق المحلية، وتدمير ونهب المنشآت الإنتاجية والموارد الاقتصادية الوطنية وصعوبة نقل المنتجات بين المحافظات، وانخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار بمستويات غير مسبوقة، والسياسات الاقتصادية الحكومية التي جرى تطبيقها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من قبيل تحرير أسعار السلع الأساسية المدعومة وزيادتها.
وإضافة إلى ما سبق، فإن نائب عميد كلية الاقتصاد في جامعة حلب، الأستاذ الدكتور حسن حزوري، يحمّل «تجار الأزمة ومحتكري المواد الرئيسية» مسؤولية كبيرة في ارتفاع تكاليف المعيشة. ويضيف في حديثه لـ«الأخبار» أنّ البنك المركزي يتحمل كذلك جانباً من تلك المسؤولية عبر «سياساته التي أدت الى التفريط بالاحتياطي النقدي دون مبرر، كإجراء المزادات لبيع الكتل النقدية، أو سياسات التدخل التي لم تكن أكثر من مسكّنات»، متهماً وزارة المالية بصرف «جزء من الاحتياطي النقدي لتأمين كتلة الرواتب والأجور، أو اللجوء إلى التمويل بالعجز، وكلاهما يساهم في ارتفاع الأسعار والتضخم، وبالتالي تدهور الواقع المعيشي ونقله من سيئ الى أسوأ».
هذا الواقع المرير للمعيشة، يترجمه إحصائياً الرقم القياسي لأسعار المستهلك الصادر عن المكتب المركزي للإحصاء، الذي تشير التقديرات الخاصة إلى أنه في نهاية عام 2015 سيكون قد وصل على نحو إجمالي إلى عتبة 500%، ونحو 550% للأغذية. وبذلك يكون معدل التضخم قد سجل زيادة هائلة، قد تصل إلى أكثر من 450% مقارنة بعام 2010، كما أن معادل القوة الشرائية للدولار، أي المقابل السوري لما يجري شراؤه بدولار واحد في الولايات المتحدة الأميركية، شهد هو الآخر ارتفاعاً كبيراً خلال السنوات العشر الأخيرة. ففي عام 2004 كان يبلغ معادل القوة الشرائية للدولار نحو 22 ليرة، وفي عام 2009 لم يكن يتجاوز أكثر من 25 ليرة، ليقفز عام 2015 إلى نحو 176 ليرة، ثم إلى 260 ليرة في شهر آذار الماضي.
معدل التضخّم سجّل زيادة هائلة قد تصل
إلى أكثر من 450

في المقابل لم تشهد الرواتب والأجور زيادات مساوية من شأنها ردم الفجوة الحاصلة، التي كانت تتسع باطّراد لدى الأسر التي فقدت كلياً مصدر دخلها أو خسرت جزءاً منه. وبحسب تقديرات الباحث في الشؤون السكانية والإحصائية، الدكتور علي رستم، فإنه بالاستناد إلى «متوسط الإنفاق الشهري للأسرة السورية عام 2010، البالغ نحو 30800 ليرة، وبفرض استمرارية النمط الاستهلاكي للأسر على ما هو عليه، فإن متوسّط انفاق الأسرة السورية وفقاً للأسعار الحالية يفترض أن يصبح نحو 151 ألف ليرة شهرياً، منها 77 ألف ليرة تنفق على السلع الغذائية، و74 ألف ليرة على السلع غير الغذائية»، فيما متوسط الرواتب والأجور لم يسجل أكثر من 26 ألف ليرة شهرياً، أي إن هناك فجوة مالية تمثّل ما نسبته 82,7% من متوسط الإنفاق الشهري المفترض للأسرة.

التنازل بالإكراه


أمام هذا الواقع، لم تجد الأسرة السورية من خيارات سوى: التكيف أو التأقلم السلبي، مع ما يعنيه ذلك من تنازل عن كثير من الحاجات الأساسية، والاعتماد المتزايد على المساعدات بمختلف أشكالها ومصادرها، وثالثاً الهجرة بحثاً عن فرص أفضل للحياة. فالأولوية كما يوضح الدكتور حزوري أصبحت «للغذاء ومتطلبات المواد الأساسية، فمثلاً العديد من الأسر عادت لترسل أولادها إلى المدارس الحكومية، بعدما كانت ترسلهم للمدارس الخاصة، كما أن هناك أسرا تعزف اليوم عن إرسال أولادها للتعليم الالزامي أو ما بعد الالزامي، مفضلة الزج بهم في سوق العمل، بغية تأمين دخل إضافي يساعدها على مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، وقسم كبير من الأسر أيضاً اختار اللجوء لأسباب اقتصادية، قبل أن تكون هناك أسباب أخرى».
وبلغة إحصائية مبسطة، يشير الدكتور رستم إلى أنه «بحسب معطيات مسح دخل ونفقات الأسرة عام 2009، فإن الفرد يحتاج كي يغطي احتياجاته من السعرات الحرارية المعتدلة السعر (أي للشريحة المتوسطة من السكان) إلى 1840 ليرة شهرياً، ومقارنةً بالرقم القياسي لأسعار المستهلك للمواد الغذائية حالياً، فإن هذا المبلغ يصبح 10100 ليرة شهرياً، أي إن أسرة مكونة من خمسة أشخاص تحتاج شهرياً إلى نحو 50500 ليرة». وعلى ذلك فإن «أي أسرة يقل إنفاقها عن ذلك المبلغ، فهذا يعني أنها اضطرت للتنازل عن جزء من غذائها المعتدل، فكيف الحال مع حاجتها للإنفاق على السلع الأخرى غير الغذائية، كالصحة، التعليم، النقل، الاتصالات، السكن وغيرها».
ولذلك كان من الطبيعي أن يخرج مسح الأمن الغذائي، الذي نفذته أخيراً الأمم المتحدة بالتعاون مع الحكومة السورية، بنتائج مخيفة، من قبيل أن 6.3 ملايين مواطن يعانون انعدام حالة الأمن الغذائي، منهم 2.4 مليون شخص يتعرضون لمستوى عال من خطورة انعدام الأمن الغذائي، كما أن نصف السوريين تقريباً، وتحديداً نحو 9 ملايين شخص، يواجهون خطر الانزلاق، وبسرعة، إلى دائرة انعدام الأمن الغذائي.
ولم تكن تقديرات المركز السوري لبحوث السياسات بأكثر تفاؤلاً، إذ أكدت أنه مع نهاية العام الماضي يكون معدل الفقر العام قد سجل نحو 85,2%، والفقر الشديد نحو 69,3%، والفقر المدقع نحو 35,1%. بينما تذهب ترجيحات الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان لعام 2014 إلى أن اكثر من نصف السكان يعيشون في حالة فقر، وأن نحو سبعة ملايين شخص منهم دخلوا في دائرة الفقر الأدنى. فمعظم الأسر السورية أنفقت مدخراتها، واستنفدت استراتيجيات التاقلم المتاحة أمامها.
تزداد حدة المأساة المعيشية أو تقل تبعاً لعوامل عدة منها التوزع الجغرافي، فهناك محافظات ترتفع فيها معدلات الفقر لمستويات لا تصدق كمحافظة الرقة 91%، كما أن الوضع الأمني واستمرارية مؤسسات الدولة من عدمه يتركان تاثيراً مباشراً على مستويات ارتفاع تكاليف المعيشية، التي يبدو في النهاية أن السوريين يتقاسمونها، وإن بنسب غير متساوية.