حين وصلنا إلى مطار القاهرة على متن باص الترحيل، كانت سيارات جهاز المخابرات المصرية تحيط بنا من كل جانب. أصوات مكبرات الصوت كانت تصلنا، نحن المنهكين من 13 ساعة من السفر، تحث بقية المسافرين «الطبيعيين» على ضرورة ان يكونوا في المطار قبل إقلاع الطائرة بساعتين على أقل تقدير!هكذا اذاً! تبتسم متحسراً على أن السفر لا يحتاج من الجنسيات الأخرى إلا الى ساعتين! يا إلهي! أما في غزة؟ فعليك شد المئزر للسفر قبل ثلاثة أيام أو أشهر... كما حصل لي.

الشقاء في غزة ليس ربانياً أوجدته الطبيعة، إنما هو صنيعة السياسة التي حولت الحاكم في مصر إلى محكوم بين عشية وضحاها. دفّع أهل القطاع الثمن حصاراً أطبق على مليون وثمانمئة ألف شخص، بالطبع ليسوا جميعهم من الإخوان المسلمين، إنما شاء القدر أن يكونوا من سكان القطاع.
لا ينبغى عليك أن تودع أهلك في كل مرة تحمل فيها الأمتعة مغادراً، فليس الفكاك من معبر رفح مضموناً ولا مسلماً به، وقد تعود بأمتعتك إلى بيتك مراراً، كما هي حال المئات، وفي صالة الانتظار الخارجية يحتشد المئات من المرضى والطلاب والعائلات محاولين الظفر بالدخول إلى الصالة الفلسطينية، المحطة الأخيرة بين غزة والجانب المصري من المعبر.
ينادي شرطي «الكانتر» أسماء مسافري الباص المرجع مسبقاً، وفيما يفترس الحر والذباب باقي المنتظرين، يتزاحم المئات حول رجال الأمن شارحين مأساتهم، ويبدو صوت شاب أربعيني مبحوحاً من الغيظ وهو يتوسل الله وشرطي الأمن « معقول أترك زوجتي وأولادي يسافروا وحدهم، شو ذنبي لو سمحوا المصريين لعيلتي بالسفر ورفضوني إلي؟» مشكلة الرجل كما فهمتها أن إدارة الكشف المرجع شطبت اسمه من الكشف بعدما أرجعه الجانب المصري حتى لا يشغل حيزاً من الممكن أن ينتفع به غيره.
ثلاثة باصات تقل 195 مسافراً قال الجانب المصري إنه مستعد لاستقبالها، وطلب أن لا تتضمن بين الأسماء حملة التأشيرات الطبية، لأن الطاقم الطبي الذي سيتثبت من مرض المسافرين غير موجود.
عليك شدّ المئزر
للسفر قبل ثلاثة أيام
أو أشهر


دخلت أول الباصات، فيما توالى خروج المرجعين لأسباب مختلفة، الوضع الأمني معقد في سيناء بعدما قتلت جماعة بيت المقدس أحد عشر جندياً مصرياً، ومدينة الشيخ زويد المحاذية للمعبر مغلقة تماماً، وفي هذه الحالات تتجه الأنظار إلى الغزيين كموضع شبهة واتهام.
ساعات الانتظار الطويلة قضاها موسى المظلوم طالب الدراسات العليا في جامعة القاهرة، وهو يحاول التنبؤ باحتمال سماح المصريين له بدخول القاهرة، وخصوصاً أن إغلاق المعبر طويلاًً وقف عائقاً أمام تجديد إقامته المنتهية، وحينما ينادي ضابط الأمن أسماء الممنوعين من السفر، يقول مرتجفاً «فصل واحد باقي لنهاية دراستي. يا ربي لا ينادي اسمي» لم يستجب الرب لدعائه، فقد خرج اسم المظلوم بين الممنوعين.
بينما يتكئ أحمد ذو العشر سنوات على عكاز حديدي ناب عن قدمه المبتورة، ينادي شرطي المرجعين اسم والده، طالباً منه مغادرة الصالة، فالتأشيرة لدخول مصر لأحمد الصغير فقط، وعليه أن يسافر منفرداً، وأمام مئات علامات الاستفهام التي صبغت وجه والده، وقف الشرطي بمشاعر واحدة وأيضاً لا إجابة!
في معبر رفح، حتى الترحيل الشاق صار أمنية المسافر بدلاً من رعب «الممنوعية من السفر»، وفي الترحيل ينطلق باص المرحلين منزوعي الجوازات، تحيطه سيارات الأمن والمخابرات، إلى مطار القاهرة، وفي الطريق لا تنفك الحواجز المتتابعة تفتش الباص وتنكش الأمتعة، ربما يلتمس المسافر لهم المعذرة، فمشهد محالّ الشيخ زويد المغلقة، ودشم الجيش المصري المحصنة تعكس خطورة الوضع الأمني هناك.
أشياء كثيرة لا بد أن يأخذها المسافر بعين الاعتبار في رحلة شقائه، فالجلوس على متن باص الترحيل ليس سهلاًً، وخصوصاً إذا كان الوضع الصحي مشابهاً لحال رفيقة السفر أم رزق، التي لا يسمح لها مرض الغضروف بالجلوس لساعة واحدة بشكل متواصل، فكيف بالجلوس ثلاث عشرة ساعة متتالية؟ يهوّن زوجها الأمر عليها بحكاياته التي لا تتوقف، والحاجة ملحة في سفر كهذا لأمثال أبو رزق ليساعدك بقص تاريخ نضاله الممتد من بيروت إلى مختلف العواصم، خلا الكويت والعراق اللتين لم تطأهما قدماه، كما قال. بالتأكيد، خمس وعشرون سنة من النضال مثقلة بالكثير كي يروى، وأمثال كاتب السطور من «الانتهازيين» محتاج لأن يفهم أكثر، ولأن يسهب أبو رزق في الحديث عن محاور الصراع وتاريخ منظمة التحرير والفرق بين منظومة التسليح الغربية والشرقية، إلى جمال بيروت وروعة أهلها والحديث صدقاً لا يملّ، لكن أبو رزق ألقى رأسه الخالي من الشعر على كتفي بعدما قهره التعب وغالبه النوم ليستغرق في نوم متعب بدليل الشخير الذي علا..
المفارقات كثيرة في هذه الرحلة عما كانت عليه الحال عام 2013 ، فاللحية تهمة تستوجب التفتيش والإذلال عند كل حاجز، وعليك أن تكون منزوع الكبرياء أيضاً لأنك مرحل، هكذا بدا الأمر عندما فتح ضابط الأمن المركزي باب باص الترحيل ورأى صبية لم تتجاوز 17 عاماً تضع ساقاً على ساق. أرهقها بنظراته، لكنها لم تكترث، فأومأ إلى ضابط الترحيل بضرورة التحلي بالمزيد من الأدب عند كل حاجز، ولا يدري الجميع بماذا خرقت الفتاة الأدب؟
أحدهم بدا غريب الأطوار ومتذمراً، لاعناً الشرق والغرب على هذا الواقع، لم نستعجل استفسارنا له عن قلة صبره وكثرة عجلته، كان أبو غالب يلعن كل حاجز، مسابقاً الزمن بينما يحسب سرعة السيارة وما تحتاج إليه من وقت لتصل به إلى مطار القاهرة، لأن تذكرة السفر إلى إيطاليا ستلغى إن لم يصل في الوقت المحدد، بعدما اضطر لتأجيلها مراراً...
شعر الرجل بالارتياح عندما ظن أنه سيصل إلى المطار قبل منتصف الليل، فيما تبدلت حاله عندما رأى أن جسر السلام مغلق لأسباب أمنية، وقتها تدخل أبو رزق ملخصاً: «خايفين من سيارة مفخخة من بيت المقدس تدمره، أصلاًً نشف ريقهم لحتى خلصته اليابان»
يتساءل أبو غالب إلى أين الطريق؟ يوضح أبو رزق أنه إلى «المعدية» أي العبّارة التي تقل على متنها عشرات السيارات بين ضفتي قناة السويس، وتحتاج إلى ثلاث ساعات لكي نخرج منها، بينما يحتاج جسر السلام إلى عشر دقائق فقط.
يضرب أبو غالب كفاً بكف: «راحت التذكرة!» يستطرد متسائلاًً: مش عارفين يطلعوا خمس طائرات أباتشي على مدار الساعة يحموا الجسر؟»
إلى مطار القاهرة بعد أكثر من ثلاث عشرة ساعة من السفر المتواصل، وهناك يجلس الجميع، ليس في قاعات الانتظار كبقية المسافرين، بل على بلاط غرفة الترحيل، تبيت الأسر بأكملها تحت رقابة وحراسة الشرطي. قد يتطلب السجن في هذا المكان أياماً متتالية إلى أن يصل موعد طائرتك، وإلى أن تسافر تبقى حائراً، لا الشرطي يعلم لماذا يعاملك بمثل هذه الخشونة، ولا أنت تعلم ماذا جنيت من جريمة!



تبدو الأمور في غزة اليوم وخاصة بعد الحرب الأخيرة والتغيرات المصرية مختلفة عن العالم كثيراً. سلاسة السفر ليست ذاتها، برغم أن واحداً وخمسين يوماً من الحرب صنعت شيئاً من الأمل لدى فلسطينيي غزة بالنسبة إلى امكانية انفراج أزمة معبر رفح، وخصوصاً بعدما شددت مصر مراراً على أن هذا المعبر شأن فلسطيني مصري ولا ينبغى أن يكون غير ذلك. لكن يبدو المعبر الى اليوم على حاله! حيث المعجزة أو ما يشبه ذلك تتكفل بتحقيق حلم المريض والطالب والمقيم والعامل المحتاج إلى السفر.