حدث أني كبرت في دمشق، وحصلت على بطاقة إقامة كان مكتوباً عليها، قبل سنوات، عبارة «مؤقتة». ثم أُزيلت لاحقاً بعد تغيير الهويات الشخصية للمواطنين السوريين ومن هم بحكم المواطن السوري، أي اللاجئون الفلسطينيون.كبرت أكثر وصار من حقي الحصول على جواز سفر. وبما أنني لاجئ، أصبح يحق لي الحصول على «وثيقة سفر».
دارت الأيام وانتهى «الأمن والأمان» في سوريا. واندلعت الأحداث والحراك الشعبي، ولم يعد لي مكان في دمشق. على الأقل كان هذا انطباعي، وعندما قررت مغادرة البلاد كنت قد أصبحت أكتب في عدة صحف عربية. كنت قد قرأت الكثير من الكتب، لعرب وأجانب، وضمن ما قرأت كثير مما كتب عن الهوية والانتماء والإنسانية والحرية. هكذا تعلمت إحدى أهم المقولات: أن الإنسان هو القيمة الأعلى.

سافرت من سوريا خلال العامين الأولين لأزمتها: مرتين إلى الضفة الغربية. كانت الرحلتان بدعوة رسمية للمشاركة في ملتقى ثقافي، وقد اتخذت التدابير اللازمة لعبوري من المملكة الأردنية (باعتبارها تمنع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا من دخول أراضيها)، من قبل السلطة الفلسطينية واللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم الفلسطينية بالتنسيق مع السلطات الأردنية.
وعبرت إلى الضفة. هكذا، أنا اللاجئ، خضت تجربة لمرتين لم أكن فيها لاجئاً، لأني مبدئياً كنت في بلدي! لكن «الطريف» أنه وطني ولست مواطناً فيه.
في العام الثالث للأزمة، اتخذت قراري بالخروج من سوريا، وكانت الوجهة التي فكرت بها، هي لبنان، على أمل أن أنجز شيئاً جيداً على صعيد البناء المهني في الصحافة، وكوني كنت على صلة ببعض الصحف اللبنانية.
صرت في لبنان، صحيح. لكنني صرت في مكان ممنوع فيه من كل شيء: من العمل والتنقل، أساساً ممنوع أن أكون موجوداً على أراضيه، لا لذنب اقترفته، ولا لجنون يخص عقلي، ولا لمال أشحذه من الطرقات، ولا لأي شيء مما يخطر ببال أحد، المشكلة فقط أني بصدفة ولادتي، ولدت فلسطينياً، ولو أني ولدت من أم وأب فلسطينيين، ولكن في دولة منحتني جنسيتها لكوني قد ولدت على أراضيها، كنت سأعامل بطريقة أخرى.
هذا الكلام ليس عن لبنان فقط، الكلام معنية به كافة دول العالم التي تعاملني على أساس أوراق حملتها لصدفة ولادتي. والمضحك، بل المبكي، أني لو غامرت مهاجراً عبر البحر كالآلاف، ووصلت إلى بلد أوروبي وحصلت على إقامة في ذاك البلد، سأتمكن من حجز مقعد على طائرة عائدة إلى البلد الذي أشاء، وسأدخل.

أنا اللاجئ، خضت تجربة لمرتين لم أكن فيها لاجئاً

الحقيقة أني أنا ذاتي، لكن أوراقي تغيرت، بتّ «أيهم» حامل الإقامة الأوروبية، وليس أيهم المواطن بلا وطن في أوروبا، وغير معروف التصنيف في بلاد العرب أوطاني.
ويحدث أن أحصل على منحة دراسية في بلد عربي ما أقيم فيه، أو أسعى إلى الإقامة فيه، وهذه المنحة قد تمنحني عملاً، إذا ما اجتزت اختبارات معينة تفرضها تلك المنحة. سأخسر المنحة وأخسر التدريب، وأخسر الوظيفة. ببساطة، ليس لأن في الدم عاهة ما، واللون لوني الطبيعي أمام المرآة وتغيره أشعة الشمس كباقي البشر، لكن عليّ التوقف قليلاً والتفكر. من أنا؟ فلسطيني الولادة. ومصنف حسب ولادتي.
سأحصل يوماً ما على جنسية بلد ما. وسأرجع إلى كل بلد يرفض استقبالي حسب ولادتي. وقد أسأل ضابط الحدود عن تصنيفي الجديد. سأكون كالبقية. سأكون أيهم الفلسطيني عابر السبيل في كل مكان. وورقة، مجرد ورقة، تغير المفهوم.
سلام على قيمة الإنسان.