في الجزء الثاني من رحلة عصام، نرافقه منذ وصول المال إلى يد «تاجر الطريق»، حتى عبور بوابات الموت العظيمة عبر البحر، والعودة من هناك اشبه بجثة تمشي، كما سيصف وضعه أصدقاؤه.السمسار، تاجر الطريق، كان واضحاً معهم منذ البداية: «رحلتكم ليست صعبة، ولكنها بالتأكيد لن تكون نزهة سهلة. ستبدأ الرحلة ستكون من لبنان باتجاه العاصمة المصرية القاهرة، هناك ستأخذون الطريق البرية تهريباً إلى ليبيا، وبعد ذلك تصعدون بالقارب الذي ينتظرنا تهريباً ايضاً إلى إيطاليا، الطريق ستكون صعبة، لكنها ليست مستحيلة»، كان يقول.
هكذا، اقتنع «عصام»، والحاجة تزين الشيطان. كان كل شيء يبدو «خلّبياً» أمام عصام. لكن الحقيقة التي سيكتشفها سريعاً، ستختلف تماماً حالما تبدأ المغامرة التي اصبح يسميها مغامرة الموت.

اثناء رحلة الوصول إلى مطار القاهرة وعبور الحدود المصرية-الليبية، تذكر عصام «تهجير» الفلسطينيين الاول عام 1948: عائلاتٌ مع أطفالها تسير عبر تلك الطرق الجبلية الوعرة. التفاصيل كثيرة، وكلها مهمة، ولكننا سنختصر هنا ونبدأ من حيث وصلوا، في النهاية، إلى القارب الذي سيوصلهم إلى أرض الميعاد: «أوروبا»، وتحديداً ايطاليا.
كان القارب المهترئ القديم يتأرجح بشدة والموج يتلاطم به بعنفٍ شديد. يتسع القارب في المعتاد لقرابة الخمسمئة راكب، لكنه كان يضم أكثر من 1000 راكب. كان كثيرون يقرأون آيات من القرآن، يحاولون أن يلوذوا بها من القدر الصعب. عائلاتٌ كثيرة دفعت ما فوقها وتحتها كي تصعد إلى هنا. كان عصام يجلس وحيداً، حين اقترب منه فجأة علاء، وعلاء هذا هو أضخم شاب في مخيم اليرموك، كان حجمه أقرب إلى بابٍ منه إلى إنسان، لكنه كان يمتلك قلب طفلٍ صغير، ومن لا يعرفه شخصياً بالتأكيد سيظنه وحشاً كاسراً، قال علاء لعصام بأن قائد المركب أخبره بأن عليهم أن «يرموا» أناساً من القارب ليخففوا الحمولة!
هكذا بكل بساطة، أخبره بأن القارب لن يحتمل نقل كل الموجودين عليه، وعليهم بالتالي التخلص من بعض «الحمولة»، وبأن «القبطان» كان يريد أن يتخلص من بعض الناس بشكلٍ عشوائي، لكنه حينما شاهد «حجم» علاء اعتقد أن الموضوع صعب من دون الحصول على موافقة «القبضاي» بحسب ما سماه.
علاء لم يعرف ماذا يفعل! لذلك اقترب ممن يعرفه حق المعرفة من المخيم، اي عصام. عصام لم يعرف أيضاً ماذا يفعل! كيف يمكن أن يختار من يموت ومن يعيش مثلاً؟ هل يختار بحسب ابجدية الأسماء؟ أم بحسب الأهمية؟ من هو الشخص الذي يستحق أن يموت أو أن يعيش؟ من هو الشخص «غير المهم» الذي يمكن أن يُرمى؟ فهل يهرب الناس من جحيم اليرموك ونار لبنان إلى الموت في البحر بكل هذه العبثية؟

كيف له ان
يختار من سيُرمى
من القارب؟

عصام أخذ علاء معه، وذهب إلى القبطان محاولاً فهم الأمر واستيعابه. حجرة القبطان كان رديئةً للغاية شأنها شأن المركب نفسه، لم يلاحظ أحد من المهاجرين ذلك، ولم يهتموا حتى إن لاحظوا.
القبطان كان ليبياً أو مصرياً لم يتأكد عصام من شيء، لكن ما لاحظه هو أن الرجل يحمل سلاحاً نارياً، هذا أولاً، وثانياً لديه «بلطجية» على ظهر المركب. تحدث القبطان بلهجةٍ مباشرة إليه وأخبره بأنه إن لم يحظَ بقائمة من الأشخاص «غير المهمين» سيقوم بالاختيار بنفسه، وبأن الأختيار لابد أن يحدث سريعاً. الجميع كان يرتدي سترات نجاة آنذاك، فكيف إذا سيحدث الأمر؟ هل سيرمون الناس هكذا من دون أي منطق؟ القبطان أخبره بأن الأمر يحدث بشكلٍ دائم وعليه ألّا يفكر بالموضوع كثيراً.
فالحمولة كبيرة للغاية والمركب لن يتحمّل، كان الرجل يتحدث بلهجةٍ مصرية هادئة، ويتعامل مع الموضوع بمنطق «عملي» بحت. كان الموقف أكثر من سوريالي، فكر عصام، هل سيختار فعلاً من يستحق الموت؟ يا الله! هذا حتى لم يحصل حين خروجهم من اليرموك. نظر إلى علاء، وخرج من المكان من دون أن يعطي اجابةً واضحة للقبطان. فكر في أن يخبر الناس بأن هذا ما يدبره القبطان لهم. لكنه يعرف الناس، كان قد جرّبهم لدى الخروج من المخيم، سيجنون بل إن بعضهم سيبدأ بالاختيار، وقد يختارون بالفعل. بعد عشر دقائق أخبره أحد الشبان بأن القبطان يريده على سطح المركب، بالفعل صعد بسرعة، سمع صوت أحدهم في الماء، نظر إلى الماء، كان علاء بحجمه الضخم يتخبط بين الأمواج، نظر أكثر وصرخ منادياً، فجأة وبكل بساطة وجد عصام نفسه في قلب الموج شأنه شأن علاء. سترة النجاة التي كان يرتديها أنقذته من الغرق، الموج المتلاطم لم يسمح لأحدٍ بسماع صوته وهو يصرخ ملئ شدقيه.
آخر ما يتذكره هو أنه أغمي عليه ليستيقظ بعد ساعاتٍ على قاربٍ لمهربين مغربيين، كان المهربون يفتشونه بشكلٍ دقيق لدى استيقاظه، سمعهم يتحدثون فأخبرهم قصته، فعرفوا أنه فلسطيني، الصدفة لعبت الدور الأكبر في نجاته، فأحد هؤلاء المهربين كان مقاتلاً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 1982، وما إن سمع لهجته حتى تعاطف معه، وأخبره بأنهم التقطوه من الماء لظنهم أنه يحمل شيئاً مفيداً، حيث كانت تجرى عمليات تهريب عبر الجثث بحشوها بالمخدرات وما شابه، وكانوا –فعلياً- يفكرون برميه في البحر حالما تأكدوا من أنه مازال حياً ولا يحمل شيئاً مفيداً. قرر المناضل السابق مساعدته بإعادته إلى الشاطئ، وهذا ما حدث فعلياً. لم يعرف بما حدث مع ركاب القارب، ولا مع صديقه علاء. صديقه المناضل السابق اعطاه قليلاً من المال، هاتف والدته كي تبيع ما تبقى من ذهب زواجها كي يدفع لمهرب آخر لإعادته إلى لبنان، وهذه المرة عبر الحدود الشمالية لأن النظام اللبناني يمنع الفلسطيني السوري من الدخول بشكلٍ «شرعي» إلى لبنان. ألفا دولار أخرى رميت في الهواء، وعصام الذي لم يعد يبتسم منذ عودته يعيش يوماً بيوم متأكداً من شيءٍ واحد لا شيء ينفع الفلسطيني إلا الموت!




تمر الطرق «الأكثر شهرة» لتهريب السوريين إلى أوروبا عبر ليبيا، تونس، وبالتأكيد تركيا. هذه الدول الثلاث أصبحت مسرحاً لكل عمليات «التهريب» غير الشرعية للوصول بالمهاجرين الهاربين من جحيم الحرب في سوريا إلى «جنةٍ» مفترضة في أوروبا. يصل عدد ضحايا عمليات التهريب هذه إلى أكثر من 30 في المئة من المشاركين بها، حيث يجرى التخلص من «الحمولة» الزائدة بشكلٍ دائم من قبل المهربين الذين لايرون فيهم أكثر من مجرد «بضاعة».