طرطوس | بين حلب والساحل السوري قصة حبّ قديمة. من شدة غيرة أهل حلب من البحر، ابتدعوا قولاً طريفاً ذهب مثلاً: «لو كان البحر في حلب كنت شفت العجب». وكان من سخرية القدر أن تحقق حلم «الحلبية»، فإن كان نقل البحر إلى «الشهباء» ثامنة المعجزات، فمن الممكن نقل حلب عبر سكانها إلى البحر المتوسط.
ثلاث سنوات من عمر الحرب السورية تجعل من يمشي في طرطوس يظن نفسه في حلب. للوهلة الأولى يخيل إليك أنك في أسواق حلب رغم أنّ طرطوس لا تتسع لسبع أسواق كأسواق الشهباء. «تفضلي يا خانم... شرفي يا حبابه»، جملة أضافها التجار الحلبيون إلى لغة الأسواق في المدينة الساحلية. سوق المشبكه العليا، مثلاً، أصبح حلبيّ الهوى والبضائع.
وائل، التاجر الطرطوسي، يقول إنّ «التجارة خُلقت للحلبية ملوك الكار بلا منازع». فيما يقول الحاج أبو عمر، التاجر الحلبي لـ«الأخبار»: «التجارة نَفَس حلب وزفيرها وطرطوس مدينة آمنة، الجو مطمئن فيها ومشجع للتجارة.

التجارة نَفَس حلب وزفيرها وطرطوس مدينة آمنة
أغلب التجار الحلبيين افتتحوا معامل وورشات عمل صغيرة (منظفات، ألبسة، وكالات تصليح السيارات...). البضائع صناعة حلبية، وأهل المدينة تعايشوا مع القادمين الجدد، وتفاعلوا مع بضائعهم أيضاً... لفتتهم مهارة البيع وتنوع المهن والمنتجات». كورنيش طرطوس يكتظ بمحلات ومطاعم تختص بتقديم الطعام الحلبي، وإضفاء النكهة الحلبية على الأطباق الساحلية. أصبح للزائر الجديد هوية يتداولها الناس، مثلاً محلات الفلافل تميزت باسمها وطعمها الغريب الحار. محل «الفلافل الحلبية» يزدحم ليلاً، كذلك الأمر بالنسبة إلى الكبّة الحلبية الشهيرة. رغم النزوح بقي المذاق شهيّاً «لو أن حلب جاءت من زمان إلى طرطوس، لكن بلا حرب ودمار»، يعلّق مُهاب، الشاب العشريني الذي تناول لتوّه لقمة من «الفلافل المهجّرة».
المدينة الساحلية الصغيرة، المعروف عنها أنها تنام باكراً، أنعشها الوجود الحلبي، وصبّ في بحرها عبقاً من الشهباء بعدما جمعت بأمانها مختلف ألوان الطيف السوري بمناطقهم وانتماءاتهم المتعددة وطبقاتهم الاقتصادية، إذ لا يقتصر الوجود على التجار، بل أيضاً على أناس خرجوا بثيابهم طالبين الأمان. لكن للأمان ضريبة يجب أن تدفع من غلاء الأسعار وأزمة السكن وغيرها، فقد تضاعفت الإيجارات شهرياً حسب المناطق وتوزعها الطبقي بين الأماكن الراقية والأحياء الشعبية. عائلات نازحة جعلت من محال تجارية مساكن لها في انتظار تحقق حلم العودة إلى منازل تركوها خلفهم.
ارتفاع الأسعار سرى على النازحين وسكان المدينة، لتتربّع طرطوس على عرش المدن السورية الأكثر غلاءً. قد يكون للأمان ضريبة يجب أن تدفع بداية من دماء شهدائها وجرحاها ومخطوفيها لتصل إلى جيوب أهلها وضيوفها.