حماه | لا يمكن تصوّر المشهد الأوّل من داخل مدينة حماه، مجسّداً بهدوء مخيف يسود مباني حي الشريعة الراقي. أبوابٌ مقفلة على الكثير من الأسرار، واكبها الحي المذكور بصمت دائم منذ أحداث الثمانينيات الدامية. شرفات خاوية داخل مبانٍ تبدو خالية من سكّانها. صمتٌ كثيف في وضح النهار يثير في المرء تساؤلات عن أهالي الحي. الأمر ببساطة لا يعدو كون شوارع الحي خالية من المارين خلال فترة الظهيرة وحَرّها.
يبتسم المرافق قائلاً مع بعض المبالغة: «الحمويون لا يستخدمون شرفات منازلهم. ولا يفتحون الأبواب، لا لسبب سوى لأنهم محافظون». يمكن الابتسام قليلاً، فالنظام لم يختطف أهالي الحي الحموي، كما يحلو التندّر بالاتهام الأسهل.

حمويون خارج بركات «الربيع»

يظهر نهر العاصي عند مشارف حي الشرقية. ويتابع امتداده في حي البارودية وصولاً إلى الحارات القديمة والقلعة. على طول النهر تتوزع نواعير حماه، التي لطالما تغنّى بها أهل المدينة، وصولاً إلى تشكيلهم «لواء» باسمها، ضمن تشكيلات «الجيش الحر» في بلدة طيبة الإمام، في ريف حماه الشمالي. 19 ناعورة تتوزع على امتداد مجرى نهر العاصي داخل المدينة وحدها، من أصل 40 ناعورة موزعة بين حماه وريفها. الحمويون يستندون إلى أسوار مجرى النهر، ويتأملون نواعيرهم بسلام. الازدحام شديد عند منتصف النهار. يتناوب الأطفال لامتطاء جمَل يسير قبالة الناعورة... ويتواصل التقاط الصور التذكارية.
مشاهد الحياة اليومية التي تعيشها المدينة، لا توحي بتاريخ من الموت مرّ عليها. صورة غريبة لمدينة سورية اهتمّ النظام بتحييدها عن الحرب القائمة، ونجح في استبعادها، حتى الآن. تتشارك المدينة مع أخواتها السوريات ظاهرة أطفال الشوارع الذين يملأون كل الأماكن. سيستغل أحد الأطفال وجود «سائح» يلتقط الصور التذكارية في مدينته، ويطالب بالمال مستعيناً بملامح باكية. حزن مصطنع مدهش يحدثه الصغير، يجعل «السائح» يسأل: «أين والدك؟»، وسيجيب بصبر على السؤال المكرر، بكلمة واحدة: «مات».
التحرك باتجاه ساحة العاصي، عبر شارع البنوك، يجعل حامل الكاميرا محط أنظار القوى الأمنية. لم تعد آلة التصوير أداة محببة في يد أي كان على الأراضي السورية. وحتماً استخدامها على جبهات القتال، أسهل من استخدامها في الشوارع الآمنة والمأهولة بالناس.

يتحدّث كثيرون عما قام به الحسن بعد وصوله من حلب إلى الريف الحموي


وحده شرطي المرور في ساحة العاصي، سيلوّح للكاميرا، ممثّلاً هيبة الدولة القائمة في الشوارع. الناس أيضاً يتهربون من التصوير، ويرتاحون قليلاً إن رأوك قد توقفتَ مع رجل يرتدي لباساً مموّهاً، يمثّل، بالنسبة إليهم، شخصاً موكلة إليه حماية المدينة وأهلها من «بركات الربيع العربي» التي لم تكن تنقص المدينة. صبري، طفل يبيع العلكة بالقرب من حديقة أم الحسن. يعمل كل يوم في منطقة مختلفة. سمع من أهله الكثير عن أحداث الثمانينيات الدامية، غير أنه لا يتحدث إلا بما رآه من «ثورة 2011»، إذ يقول: «عانينا أشهراً طويلة من إغلاق الشوارع بحواجز لجان الثورة وشباب التنسيقيات المسؤولين عن التظاهرات. توقفت أشغالنا وأجبر المرحوم والدي على إغلاق دكانه، تماشياً مع إضراب الكرامة. إلى أن انتشر السلاح في الشوارع بوضوح».

«حصان طروادة» للشفاء

في حيّ جنوب الملعب جنوباً، ومشاع الأربعين شمالاً، يلفت طيف الثورة الذي مرّ من هُنا. الطيف هذا يقتصر على كتابات مشطوبة على الجدران، قبل أن يتوقف كل شيء فجأة. نامت حماه «ثائرة» واستفاقت صباحاً، فكان «أن شفيت من ثورتها». الناس يتحدثون عن الضابط الشهير العقيد سهيل الحسن، ودوره في حماه، منذ أن كان على رأس جهاز المخابرات الجوية فيها. يتحدّث كثيرون عما قام به الحسن، ولا سيما بعد وصوله من حلب على رأس تعزيزات إلى الريف الحموي الذي تزداد رقعة معاركه، حتى تكاد تحاصر المدينة. للعقيد، بنظرهم، خبرته في المدينة وأهلها. يروي مصدر ميداني عاصر بداية الأحداث الأمنية في حماه عن «خدعة الجيش لاستعادة السيطرة على المدينة من يد المسلحين، حيث جرى اتباع خطة حصان طروادة مع المسلحين، بعد تظاهر بعض العناصر بالانشقاق ضمن عربات مدرعة دخلت المدينة، للانضمام إلى الثوار، الذين سرعان ما جرى تطويقهم والقضاء على أعداد كبيرة منهم وفرار بعضهم الآخر باتجاه الريف». الرواية الشعبية لما جرى، يتحدث عنها عادل، وهو مدرّس متقاعد، إذ يقول: «كنا تحت رحمة أولاد التنسيقيات. لم يكن الأمر يحتمل بالنسبة إلينا، أن يلعب هؤلاء الصغار الحالمون بأعمارنا. المدينة بتاريخها ورمزيتها، لا تحتمل ذلك أبداً. والنظام يعي حساسية الأمر». ويتابع: «للمدينة تعاطف كبير في الوجدان الإسلامي على خلفية الصراع الدموي السابق بين الإخوان المسلمين والنظام، ما جعلها محط أنظار أنصار الحراك وطالبي الدعم له».
وبحسب الرجل الستيني، فقد كان يعوّل على انتفاضة حماه باعتبارها «الشعرة التي ستقصم ظهر البعير من خلال ما ستلقاه من تأييد وتمويل كل متردد في دعم الحراك». لا يثق الرجل كثيراً، بالقدرة على الاستمرار في إمساك النظام بالوضع الأمني داخل حماه، وسط ريف يزداد اشتعالاً ليرسم طوقاً حول أحياء المدينة.

مدينة إسلامية في دولة علمانية

قبالة ناعورة المأمورية القريبة من القلعة وقصر العظم (المتحف حالياً)، يمكن مراقبة المارين من سكان المدينة الهادئة، غير المعنيين أبداً بأخبار القتال على الجبهات في معظم جهات الريف. معظم النساء هُنا منقّبات، والرجال ملتحون، وبجلابيب بيضاء. تبدو حماه «مدينة إسلامية» تحيا بسلام في «دولة علمانية»، تماماً، كما أريد لها أن تكون.
يقودك أحمد، أحد أقارب مرافق الرحلة إلى مدخل حي الحاضر. لا أحد يتشجع على الدخول أكثر، ليس لسبب إلا بداعي التحفظ، فالحي لا يرحّب كثيراً بنساء غريبات سافرات. يشرح أحمد، أهمية الحريات الدينية بالنسبة إلى الحمويين، فهي الحرية الوحيدة المكفولة بعناية منذ ما بعد أحداث الثمانينيات. ويتابع: «كانت حماه عرضة لحملات إعلامية كبيرة جرى الترويج لها بسهولة في فوضى المناطق العشوائية، كبقية المحافظات الأُخرى». وبحسب أحمد، فقد بدأ الحراك انطلاقاً من أحياء: مشاع الأربعين، ومشاع الحميدية، والجراجمة، وباب قبلي، ووادي الجوز، ومشاع الطيار، وحي جنوب الملعب، إضافة إلى حي الحاضر، فيما بقيت أحياء الشريعة والبعث والبرناوي بعيدة عن أي مظهر من مظاهر الخروج عن السلطة. ويضيف: «في تموز 2011 خُطف عناصر المخفر في حي الحاضر، وذبحوا بالسكاكين. فكان على العقلاء تحييد أنفسهم عن رداء الثورة الذي يخفي وراءه ما يخفيه». لا ينفي أحمد ميول الكثير من الحمويين إلى العيش في دولة إسلامية، في ظل حالة العداء الدائم مع النظام، وتغلغل الإخوان المسلمين في نشطاء المدينة. غير أن نار «داعش» التي تمتد بجنون لتحرق ما يقف في طريقها، تجعلهم يخشون الاحتراق مجدداً في حرب مقبلة بين النظام وعدوّه الجديد، بحسب تعبيره.
نرجس عصفور والدة لطبيب أصيب في تظاهرة حماه المرحّبة بزيارة السفير الأميركي السابق روبرت فورد. كان كل هم المرأة التي عادت مؤخراً إلى حماه بعد رحلة نزوح طويلة، علاج ابنها بعيداً عن لعنة المدينة. علق في ذاكرتها من تلك المرحلة، محاولات عدة للمصالحة من قبل الحكومة، من خلال وزارة الأوقاف، لتأتي زيارة فورد فتقضي على أمل التوصّل إلى حل، إذ نال الحراك الشحن المعنوي اللازم لزيادة حدة الصدام. «الغرب يلعب فينا طابة. وحماه دفعت كتير وبيكفي»، تقول عصفور.
لا تخفي المرأة تعاطفها مع متظاهرين حاولوا هدم تمثال الرئيس الراحل حافظ الأسد، في «جمعة أطفال الحرية» في حزيران 2011. يومئذ، حصلت أقوى المواجهات بين المتظاهرين وفرع الأمن العسكري الذي كان بقيادة رئيسه السابق محمد مفلح (يُقال إنه انشق وهرب إلى تركيا). سقوط العديد من القتلى المدنيين، بحسب نرجس، زاد التعاطف مع الضحايا ضد الحكومة ورئيس فرع الأمن العسكري، الذي «انشق لاحقاً»، ما اضطر السلطة إلى نقل التمثال من الساحة، للحد من حصول المزيد من المواجهات الدموية. ومع بدء العملية العسكرية في الشهر الثامن من عام الثورة الأول، بالتزامن مع شهر رمضان، بدأت ميول السيدة والكثير من الحمويين يتغير. لا تتعاطف عصفور اليوم سوى مع المدينة وبسطائها، وتقول: «لن يعود ابني كما كان في السابق. انظري حولك، لقد مضى السفير الأميركي وجميع قادة الإخوان، وتركونا لقدرنا بعد توريط المدينة بما لا طاقة لها به». تتحدث المرأة بلسان حال الكثير من الحمويين.




قليل من... المسيحيين

بالقرب من القلعة يسكن مسيحيو حماه في حيّ المدينة إلى الجنوب الغربي من القلعة، إضافة إلى الجزء الغربي من حارة المغيلة قرب القلعة أيضاً. يعدّ حيهم بمبانيه الأثرية الأقدم في المدينة. بلغ عدد مسيحيي حماه 80 ألفاً قبل الأحداث، فيما يقدّرون اليوم، بحسب إلياس، وهو مهندس من أبناء حي المدينة، بقرابة 30 ألفاً، ولا سيما بعد التعرض لأحد رجال الدين المسيحيين بالقتل داخل كنيسته في بداية الحراك.
«اليوم لا نشهد سوى أحداث أمنية متفرقة، يجري ضبطها سريعاً، في حيي الحاضر وجنوب الملعب مثلاً. آخر الحوادث الأمنية منذ أقل من شهر: حرق ناعورة الجعبرية، في ظروف مجهولة»، يقول إلياس. ويتابع: «نعيش اليوم بسلام. الأمور تغيرت إلى الأفضل، والكثير من المسيحيين النازحين عادوا». ويشرح مشاكل المدينة، المتمثلة في كثافة عدد نازحي الرقة وحلب وريف حماه، إذ كان عدد سكان المدينة لا يتجاوز مليون نسمة، فتحولوا اليوم إلى 3 ملايين، ما أثّر سلباً على الخدمات.